محمد بن عيسى الكنعان
ليس خافيًا على مستوى وعي الشعوب، أو صعيد المؤسسات والأنظمة الرسمية بالعالم أن الولايات المتحدة الأمريكية هي الداعم الأول والأكبر لدولة الكيان الصهيوني (إسرائيل) منذ إعلان تأسيسها عام 1947م، خاصةً بعد انسحاب بريطانيا - الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس - من منطقة الشرق الأوسط وتحديدًا المنطقة العربية، وتموضع أمريكا مكان نفوذها بما عُرف بمشروع (ملء الفراغ) الذي نادى به الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور عام 1957م، فانتقلت الرعاية الغربية للكيان الصهيوني من حضن الأوروبيين إلى مهد الأمريكان، الذين دعموا هذا الكيان على كل المستويات: المستوى السياسي عبر شرعنة الاحتلال الصهيوني لفلسطين في المحافل الدولية، وبالذات في عضوية هيئة الأمم وقرارات مجلس أمنها، والمستوى الاقتصادي بالمعونات التي تجاوزت - منذ تأسيس إسرائيل وحتى الوقت الراهن - إجمالاً 158 مليار دولار حسب البيانات الأمريكية الرسمية، و260 مليار دولار حسب بيانات (الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية). ناهيك عن المستوى العسكري بتحقيق التفوق النوعي بالسلاح لصالح إسرائيل مقارنةً بجيرانها العرب، والمستوى الثقافي بالحجم الضخم من الإنتاج السينمائي والإصدار الفكري الداعم للدعاية الصهيونية، والمستوى الأكاديمي من خلال الأوساط النخبوية في الجامعات الأمريكية ودور الفكر وبيوت الخبرة، التي أسهمت بشكل كبير في إجراء عملية غسيل مخ ناجحة للشعب الأمريكي، الذي وقع - خلال أكثر من نصف قرن - بين ثلاث قوى ذات تأثير فاعل لصالح إسرائيل في الوجدان الأمريكي، فالمؤسسات الرسمية تكذب بشأن حقيقة ما يجري في فلسطين المحتلة، وحق اليهود بأرض إسرائيل التاريخية، والمؤسسات الإعلامية تنشر هذا الكذب بحكم قوتها في الرأي العام الدولي، فضلاً عن رأي الداخل الأمريكي، والمؤسسات الأكاديمية تُصادق على هذا الكذب، وتروج له تحت مزاعم الدراسات التاريخية الموثقة والبحوث المحكمة.
ولكن في عالم جديد تحررت فيه المعلومة وتسيدت فيه الحقيقة؛ كان لمنصات التواصل الاجتماعي على مستوى العالم الدور الأكبر في كشف أبعاد الصراع العربي الإسرائيلي، خاصةً بعد أحداث حرب غزة ومآسيها منذ شهر أكتوبر 2023م، وحجم الدمار والقتل المتواصل، والممنهج للشعب الفلسطيني بفعل آلة الحرب الصهيونية على مدار أكثر من سبعة شهور، حتى وصل عدد القتلى إلى أكثر من 35 ألف شهيد، وأكثر من 78 ألف جريح أو مصاب، ناهيك عن المشردين والنازحين. هذه المنصات الفعّالة أسهمت في إفاقة الشعب الأمريكي من حالة الغشاوة التي كان يعيشها، وصار يعي شيئًا فشيئًا حقيقة ما يجري في غزة، بل صار يُدرك الأسباب الجذرية لذلك، والمتمثلة في احتلال دام قرابة 77 عامًا، كان خلالها الشعب الأمريكي يدفع الضرائب لتتحول إلى أسلحة مدمرة يُقتل فيها أطفال فلسطين ونساؤها الأبرياء. تلك الإفاقة شاهدناها بمقطع فيديو انتشر لمواطن أمريكي كبير بالسن يصف ما يجري في غزة بأنه حرّر الشعب الأمريكي من دعاية إسرائيل. وكذلك شاهدناها في أمريكان وأوروبيون دخلوا في نقاشات حادة مع إعلاميين منحازين لإسرائيل على شاشات القنوات الفضائية الشهيرة، وهناك مواطنون أمريكان قاطعوا متحدثين من ساسة وأعضاء كونغرس في عدة مناسبات، وقد صاحب كل ذلك موجة من الاحتجاجات الشعبية في عددٍ من المدن الأمريكية مطالبةً بوقف ما وصفته بالإبادة الجماعية. ولم تنحصر تلك الموجة بالشوارع والميادين، إنما انتقلت مطالبات وقف حرب غزة أو الإبادة الجماعية إلى الجامعات الأمريكية، ويقودها الجيل الأمريكي الجديد.
فكانت الاعتصامات والاحتجاجات من قبل الطلاب والطالبات في جامعات عريقة وبارزة مثل: كولومبيا، وهارفارد، ويوك، وكاليفورنيا وغيرها، حتى وصل عدد الجامعات إلى أكثر من 75 جامعة أمريكية شهدت دعمًا لفلسطين من طلبتها حتى وصفت بعض وسائل الإعلام هذا الحدث بـ(انتفاضة الجامعات الأمريكية)، ولعل هذا يُذّكر بما حدث تاريخيًا من مظاهرات واحتجاجات في عدة جامعات أمريكية ضد حرب فيتنام، أو ضد نظام الفصل العنصري في الستينيات الميلادية، أو مظاهرات احتلال وول ستريت قبل عدة سنوات. لكن المفارقة العجيبة هنا، أن تلك - فيتنام والفصل العنصري وول ستريت - كانت قضايا أمريكية خالصة، بينما حرب غزة قضية إقليمية في محيطها، وخلف الحدود، وعابرة للقارات، ما يعني أن الدافع إنساني، خاصةً إن ما يحدث في الجامعات لم يقف عند الاحتجاجات والاعتصامات، بل تطور الموقف إلى حفلات التخرج، فالطلبة يصعدون إلى مسارح التخرج بالعلم الفلسطيني، والملابس الفلسطينية، والرموز التي تُعبّر عن الإبادة الجماعية، وهم يرددون (Free Palestine)، بل إن منظمي إحدى حفلات التخرج بإحدى الجامعات الأمريكية تفاجئوا بانسحاب الطلاب والطالبات المتخرجين من الاحتفال تعبيرًا عن رفضهم لوجود شخصية داعمة للاحتلال الصهيوني.
هذا التحول الكبير في الوعي الجماهيري الأمريكي لصالح فلسطين ومن قبل شباب وبنات يُشكّلون الذاكرة الجديدة لأمريكا بجيلها الحالي لا تقف قراءته عند المواطن الأمريكي الذي تجاوزت معرفته حدود ولايته، إنما في أبعاده الحقيقية وتأثيراته الفعلية، فهذا التحول يُعتبر مؤشرًا خطيرًا بالنسبة للكيان الصهيوني من ناحيتين؛ الأولى أن هؤلاء المحتجين سيكونون يومًا ما قادة أو ساسة أو مسؤولين في النظام الأمريكي، والأخرى أن تبريرات (معادة السامية) لم تعد مجدية في الدفاع عن وجهة النظر الإسرائيلية. لهذا لم يكن مستغربًا أن يطالب رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بقمع احتجاجات الجامعات. كما أن هذا التحول - من ناحيةٍ أخرى - يعكس أزمة تتشكل في النسيج الأمريكي أو ربما تشكلت، وتتمثل بواقع التباين بين النخب الأكاديمية والطبقات السياسية الأمريكية وبين الجيل الجديد المتمثل بطلبة الجامعات، حول تطبيقات القيم الأمريكية التي يدعو لها الدستور الأمريكي ويحميها كحرية التعبير والديمقراطية. ناهيك عن القيم الإنسانية المرتبطة بحقوق الإنسان التي طالما تغنى بها الغرب بشقيه (الأمريكي والأوروبي)، فظهر من عباءته من يُحاكمه تحت قبة العدالة عندما أبصر الحقيقة.