أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
القضية الخامسة: الكتابات الثمودية وخرابيش البادية: لعل من أكثر القضايا التي يتضمنها المنظور الآثاري لمدرسة الأنصاري جدلاً وخروجاً عن المألوف هي القضية الذي أكد فيها -رحمه الله- خطأ نسبة بعض النقوش المكتشفة إلى الثمودية وهي في حقيقة الأمر حسب قوله ليست من الثمودية في شيء. بل هي حسب استنتاجاته - طيب الله ثراه - خرابيش بادية الحواضر الذين قلدوا ما اطلعوا عليه من نقوش ثمودية في الحجر والعلا ونجران وغيرها؛ مدللا على صحة رأيه، كما أشار إلى ذلك - طيب الله ثراه- في أكثر من محاضرة أو لقاء أو مؤتمر ومنتدى بحروف كالألف التي تشمل أكثر من خمسة عشر نوعاً استخدمتها بادية الحواضر في تقليدهم لأصل الخطوط الثمودية التي وقعت عليها أبصارهم (الأنصاري2015، نظرات في آثار الجزيرة العربية، محاضرة ألقيت في منتدى الجمعة بالرياض).
كما فرق - رحمه الله- في هذا الصدد بين الثمودية والأنباط معتبرا أن ثمود الحجر هم بادية ثمود بينما الأنباط التي سادت في شمال الجزيرة العربية في الحقبة التاريخية التي امتدت من القرن الرابع قبل الميلاد حتى القرن الثاني الميلادي هم حضر اولئك القوم.
- القضية السادسة: ملكات سبأ بين شمال جزيرة العرب وجنوبها: تعد هذه القضية في رأيي المتواضع من أكثر قضايا المنظور الآثاري لمدرسة الأنصاري إمتاعاً وإثراء للفكر التاريخي السياسي والأنثروبولوجي وخروجاً في الوقت نفسه عما ألفته الأطر المرجعية في الساحة الاكاديمية الآثارية بأسرها لفترة طويلة من الزمن. فيذكر - طيب الله ثراه- في هذا الصدد أن قراءة متأنية للآلاف من الكتابات التي وجدت في جنوبي الجزيرة العربية سواءً في سبأ أو حضرموت أو قتبان أو معين تؤكد بما لا يدعو مجالاً للشك عدم وجود ذكرٍ لاسم ملكة عربية أو أميرة عربية هناك. بل أن كافة النصوص التي وجدت في شمال جزيرة العرب تؤكد وجود ملكات كن يحكمن في أوائل القرن التاسع قبل الميلاد مملكة عربية سبأية صغيرة في دومة الجندل شمال هذه الجزيرة.
ويتزامن هذا التاريخ - حسب الدكتور الأنصاري- مع فترة حكم سليمان عليه السلام في فلسطين التي لم تكن جغرافياً ببعيدة عن هذه المملكة؛ حيث قال تعالى عزوجل مؤكداً هذه الحقيقة في الآية الثانية والعشرين من سورة النمل التي عرض فيها تعالى حال هدهد سليمان فقال (فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين).
يضاف إلى ذلك أن الشمس كانت معبود تلك المملكة الرئيس ولم تكن الشمس معبوداً رئيساً في جنوبي الجزيرة العربية، بل كان القمر هو المعبود الرئيس هناك (الأنصاري 1975: ص ص 82-84، الأنصاري 2008، الأنصاري وأبوالخير 2014: ص 114). ويعزز القرآن الكريم أيضاً هذه القضية بوضوح على لسان هدهد سليمان عليه السلام في الآيتين الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين على التوالي من سورة النمل؛ حيث قال تعالى (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم)»23» (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون)»24».
ويستدل بعض المؤرخين على الربط بين أسماء اولئك الملكات العربيات وبين دومة الجندل بعثور المنقبين على اسماء بعضٍ منهن في النصوص الآشورية في حين لم يعثر العلماء حتى الآن - كما أسلفت - على اسم ملكة أو أميرة في الكتابات العربية الجنوبية (على 1969:5/600-605، مهران 1994: 2/288-289). ولعل أصحاب هذا الرأي يذهبون الى أن السبئيين إنما ترجع أصولهم الأولى إلى شمالي بلاد العرب وتحديداً في الجوف أو بالقرب منها، وأن دولتهم الحقيقية لم تبدأ في بلاد العرب الجنوبية إلا حوالي 800 ق.م أي بعد ما يقرب من قرنين من زيارة ملكة سبأ لسليمان عليه السلام (الأنصاري وأبوالخير 2014: 114).
-الخاتمة: لقد جال سعادة الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الطيب الأنصاري - رحمه الله- وصال حرا طليقا منفتح الذهن لا يحده تخصص، ولا تعيقه عن التأمل والنظر فكرة مسبقة ايدولوجية دوجماتية غير براجماتية موغلة في الطيف الداكن او الرمادي. فصنع - رحمه الله- نتيجة لكل ذلك منظوراً معرفياً آثارياً معاصراً ذا علامة فارقة تم بموجبه إحلال الدراسات الآثارية التقليدية بدراسات حديثة جادة مبتكرة أثرت البحث الآثاري المعاصر في الجزيرة العربية بشكل عام والمملكة العربية السعودية بشكل خاص.
وتؤكد استقراءاتي للمسار التطبيقي للمنظور الآثاري لمدرسة الأنصاري وما يتعلق بهذا المسار من أبحاث ودراسات وتنقيبات أجريت في الفاو والعلا مثلاً، شغف الدكتور الأنصاري - طيب الله ثراه- في تلك التنقيبات وغيرها بالجمع بين النقوش وتزمينها وربطها بتاريخ المواقع التي اكتشفت فيها وماهية الحضارة التي تنتمي اليها وفق منظومة مرجعية استقراء- استدلالية مفتوحة راجعة التغذية تضمن لتلك المنظومة شموخ فلسفتها المعرفية، وتجدد أطرها المفاهيمية، وديمومة أبعادها الإجرائية زمكانياً-.
وكلي أمل في أن لا تخفت جذوة هذا الانتماء الأنصاري للآثار وأن تجد من زملائه وطلابه الأوفياء من يغذيها بفضل من الله طاقات الراحل الديناميكية التي عوّدهم عليها وتعودوا هم عليها أزمنة مديدة. كما أنني كلي أمل أن يبقى الدكتور الأنصاري - رحمه الله- حيا ًبيننا، وأن يبقي المنظور الآثاري لمدرسة الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الأنصاري علما يرفرف مدى الأزمان ومصباحاً يضئ دروب الأجيال القادمة بالعلم والمعرفة.
- المراجع:
- الأنصاري، عبد الرحمن الطيب، 1969، أضواء على تاريخ جنوب الجزيرة العربية قبل الأسلام، مجلة قافلة الزيت، شركة أرامكو- إدارة العلاقات العامة، مج17، ع1، ص ص3-6،
- علي جواد، 1969، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج2، ج5، دار العلم للملايين، ط1، بيروت
- الأنصاري، عبد الرحمن الطيب، 1975، لمحات عن بعض المدن القديمة في شمال وشمال غربي الجزيرة العربية، الدارة، ع1، ص ص 75-87، الرياض
- الأنصاري، عبد الرحمن الطيب، 1977، أضواء جديدة على دولة كندة من خلال آثار ونقوش قرية الفاو، دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر، ص ص 864-875، الرياض
- الأنصاري، عبد الرحمن الطيب، 1982، قرية الفاو: صورة للحضارة العربية قبل الإسلام في المملكة العربية السعودية، جامعة الملك سعود، 431 ص، الرياض
- ابوالخير، يحيى محمد شيخ ابوالخير، 1992، النظرية والقانون في العلوم الإنسانية التطبيقية، العصور، م7، ج1، دار المريخ، الرياض
- مهران، محمد بيومي، 1994، تاريخ العرب القديم، ج2، دار المعرفة الجامعية، ط11، الإسكندرية
- ابوالخير، يحيى بن محمد شيخ، 1995، نحو منهج موحد في الجغرافيا التطبيقية، الجمعية الجغرافية السعودية، سلسلة بحوث جغرافية، ع22، ص ص 5-45 الرياض
- بوبر، كارل، 1997، منطق الكشف العلمي، مترجم، النهضة العربية للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 194ص
- الأنصاري، عبد الرحمن الطيب، 2001، ثمود والثمودية»1»، ثمود كما أرخها القرآن الكريم، مداوالات اللقاء العلمي السنوي الثالث لجمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، جامعة السلط ان قابوس، مسقط
-الأنصاري، عبد الرحمن الطيب وحسين بن علي ابوالحسن،2005، العلا ومدائن صالح(الحجر) حضارة مدينتين، دار القوافل للنشر والتوزيع، ص 112، الرياض
- كون، توماس صموئيل، 2007، بنية الثورات العلمية، مترجم، المنظمة العربية للترجمة،389 ص
- الأنصاري، عبد الرحمن الطيب، 2008، الجوف» قلعة الشمال الحصينة»، سلسلة قرى ظاهرة على طريق البخور، دار القوافل للنشر والتوزيع، الرياض
- الأنصاري، عبد الرحمن الطيب، 2011 ، نظرات في آثار الجزيرة العربية، محاضرة (فيديو يوتيوب) ، منتدى الجمعة، الرياض
- ابوالخير، يحيى محمد شيخ، 2013، دراسات في نظرية المعرفة، الجمعية الجغرافية السعودية، جامعة الملك سعود، ص 228، الرياض
- الأنصاري، عبد الرحمن الطيب ويحيى بن محمد شيخ ابوالخير، 2014، نحو فهم السرد التاريخي في القرآن الكريم، أدوماتو 29، مؤسسة عبد الرحمن السديري الخيرية ص ص 113-122، الرياض