عبدالرحمن الحبيب
فرع ماكينزي في الصين تفاخر عام 2019 بمشورته الاقتصادية للحكومة المركزية الصينية، في حين أعد مركز أبحاث بقيادة ماكينزي كتابًا ينصح الصين بـ»تعميق التعاون بين قطاع الأعمال والجيش ودفع الشركات الأجنبية للخروج من الصناعات الحساسة (صحيفة فايننشال تايمز). هذا أظهر الشركة وكأنها تقف مع الصين ضد الولايات المتحدة؛ وفي وقت سابق من هذا العام، وجد المسؤولون التنفيذيون في شركة ماكينزي أنفسهم في ورطة سياسية خطيرة.
وردت شركة ماكينزي، التي حظيت في السابق باهتمام وسائل الإعلام لترويجها لمبادرة الحزام والطريق الصينية، ببيان قالت فيه إن الحكومة المركزية في الصين لم تكن قط عميلا على حد علمها، وشددت على «تاريخها البالغ 75 عاما في دعم حكومة الولايات المتحدة». لكن الضرر كان قد وقع: فقد دعا كبار صناع السياسات الجمهوريين في أمريكا إلى منع شركة ماكينزي من الحصول على عقود فيدرالية تبلغ قيمتها عشرات الملايين من الدولارات.
هذا ما جاء في تقرير مطول لمجلة فورين بولسي الذي يوضح أن الشركات الاستشارية تتعثر في حقل ألغام جيوسياسي، وقد ينتهي عصر التدفق الحر للمعلومات، عندما كانت الشركات الاستشارية ووسطاء المعلومات الآخرين يقدمون المشورة للحكومات ومشاركة البيانات عبر الحدود الوطنية دون إثارة قدر كبير من الجدل، والعمل بسهولة مع عملاء مختلفين في بلدان مختلفة، فبينما كانوا يتحدثون مع الشركات المنافسة، كانوا يقدمون المشورة للحكومات المتنافسة.
لعقود من الزمن، افترض قادة الأعمال أن العولمة تعني توسع السوق والتبادل الحر للمعلومات باعتبارها خالية من المخاطر، وكان همهم الأكبر هو الحصول على حصة في السوق والحفاظ عليها، والتنافس مع منافسيهم. كان وضع الاقتصاد العولمي هو التنافس.
كل هذا قد تغير، فالآن في ظل تحول التنافس بين الصين وأمريكا إلى صراع تجاوز الاقتصادي إلى السياسي، فصارت العولمة تعني المخاطر الجيوسياسية، والمعلومات هي الأصول الأكثر خطورة على الإطلاق، ولم يعد كبار المسؤولين في واشنطن وبكين ينظرون إلى المعلومات الاقتصادية باعتبارها مجرد وقود للابتكار وتحسين خدمات الأعمال، بل تحولت الأسواق إلى ساحات قتال، حسب التقرير؛ وأصبحت الشركات تواجه حالة من الارتباك بشأن المعلومات التي يمكنها تصديرها وتلك التي لا يمكنها تصديرها
يذكر التقرير أن طرفي النزاع (الصين وأمريكا) يعملان على تكثيف الإجراءات الرامية للحد من تبادل المعلومات الإستراتيجية؛ وتعرضت شركات الاستشارات إلى الشك في عملها مع الحكومات المعادية. بدأت الضربة الأولى حين فرضت الولايات المتحدة قيوداً واسعة النطاق على تصدير الأدوات والخبرات التكنولوجية. وقد تحركت الولايات المتحدة بالفعل لخنق قدرة الصين على الوصول إلى بعض أشباه الموصلات المتقدمة للغاية، واستهدفت الشركات التي لها علاقات وثيقة بالمؤسسة العسكرية الصينية. الصين بدورها منعت وصول الأجانب إلى البيانات الأساسية المتعلقة بالعلاقات التجارية والتقدم التكنولوجي، والتي تخشى أن يتم نشرها ضدها.
الآن أصبح قلق الحكومات أقل بشأن المنافسة في السوق وأكثر اهتماماً بالمنافسة الأمنية. وما بدا ذات يوم وكأنه نصيحة سوقية للحكومات المتنافسة قد يبدو الآن وكأنه تبادل للمعلومات مع العدو. وأصبح ينظر إلى بناء اقتصاد الخصم كنوع من المساعدة في تغذية الآلة العسكرية التي قد تستخدم في يوم من الأيام ضدك، كما أن توفير البيانات والمعلومات قد يعزز ترسانة الخصم بشكل مباشر. عرضت شركة مايكروسوفت «نقل» موظفي الحوسبة السحابية من الصين وسط تصريحات قاسية من إدارة بايدن بأن الحوسبة السحابية قد تساعد الخصوم في تدريب الذكاء الاصطناعي.
تفسر هذه التغييرات الشاملة المشاكل الحالية التي تواجهها شركة ماكينزي، فالأنشطة التجارية التي بدت غير ضارة قبل بضع سنوات قد يتم تصويرها اليوم على أنها شبه خيانة. والشركات التي لم تتعامل بشكل مباشر مع الحكومات الأجنبية، ولكنها قامت فقط بجمع معلومات السوق، تواجه معضلات مماثلة. فمثلاً، تمت العام الماضي مداهمة فرع بكين لمجموعة مينتز، وهي شركة استشارية متخصصة في جمع المعلومات وتقييم المخاطر، من قبل السلطات الصينية، التي بدأت على ما يبدو تشعر بالقلق من أن الإحصائيات الدقيقة حول الاقتصاد الصيني تشكل تهديداً للأمن القومي.. كما تمت بعد شهر مداهمة شركة Bain، التي تقدم نصائح مفصلة للشركات.. وبرر المنظمون الصينيون تحركهم ضد شركة مينتز بالادعاء بأن الشركة أجرت «تحقيقات إحصائية ذات صلة بالأجانب» حسبما ينقل التقرير.
في عالم يتسم بالمنافسة الجيوسياسية، حتى البيانات الاقتصادية التي تبدو بريئة صار من الممكن أن يتعرض نشرها لعقوبات قاسية. ففي نهاية المطاف، من الممكن أن تستخدم حكومات أخرى مثل هذه البيانات لاكتشاف واستغلال نقاط الضعف الاقتصادية، واكتشاف الشركات التي تقيم معها علاقات مالية، أو الشركات التي تعتمد على التكنولوجيات الأجنبية التي يمكن استخدامها كسلاح ضدها.
ويختم التقرير بأن وسطاء المعلومات مثل ماكينزي وباين يتعرضون منذ فترة طويلة لانتقادات لارتباطهم بنموذج معين من الرأسمالية المعولمة. هذا النموذج في ورطة ومعه الشركات التي روجت في نشر بشائره. ومع تزايد النظر إلى المعلومات ليس فقط كمدخل اقتصادي، بل وأيضاً كمصدر للمخاطر الجيوسياسية والحرمان، فستتعرض الشركات الاستشارية للهجوم، ولن تكون شركة ماكينزي آخر وسيط للمعلومات يتم استهدافه من قبل الساسة الغاضبين.