د. تنيضب الفايدي
زبيدة : هي أم جعفر بنت جعفر بن المنصور أبي جعفر العباسية، والدة الأمين محمد بن هارون الرشيد، وقد قيل: لم تلد عباسية خليفة سواها، وكانت عظيمة الجاه والمال، ولها آثار حميدة في طريق الحج، وجدّها المنصور هو من لقبها زبيدة لبضاضتها ونضارتها، توفيت سنة ست وعشرين ومئتين، وهي التي سقت أهل مكة بعد أن كانت الراوية عندهم بدينار، قال الثعالبي: كانوا يقولون لو نشرت زبيدة ضفائرها ما تعلقت إلا بخليفة أو ولي عهد، فإن المنصور جدها، والسفاح أخو جدها، والمهدي عمها، والرشيد زوجها، والأمين ابنها، والمأمون والمعتصم ابنا زوجها، وأما ولاة العهد فكثير. تاريخ الخلفاء (ص294).
ونظراً لخدمتها العظيمة في خدمة الحجاج، خاصة في طريق مكة المكرمة - الكوفة، حيث ازدهر هذا الطريق، وازداد شهرة في العصر العباسي الأول فقد عرف فيما بعد باسم «درب زبيدة»، نسبة إليها، حيث اهتمت بهذا الطريق فأُقيمت على امتداده المحطات والاستراحات، ورُصفت أرضيته بالحجارة في المناطق الرملية وزودت بالمنافع والمرافق اللازمة من آبار وبرك وسدود، وهكذا خلدت ذكرها على مرّ العصور. وفي الحقيقة هذا الطريق بدأ الاهتمام به منذ عهد الخليفة العباسي الأول أبي العباس السفاح، وتوالت الاهتمامات به إلى أن وصل أوج شهرته في عهد الخليفة هارون الرشيد 170-193هـ، ولقد كان لزوجه (زبيدة) دورٌ كبير في الطريق حيث يُنسب لها ما يقارب الـ11 محطة ومنزلاً على الطريق.
وقد أصبح استخدامها بصفة رسمية منذ بداية الفتوحات الإسلامية للعراق وفارس، وخاصةً بعد تأسيس كلّ من الكوفة والبصرة، حيث ولى عمر أبا موسى الأشعري على البصرة 17هـ/ 638م، فقام بحفر الآبار على طول طريق البصرة - مكة، وتوقف في بعضها الجيش الإسلامي بقيادة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قبل دخوله العراق، ومن هذه المناهل زرود والثعلبية وشرف والعذيب والقادسية. معجم البلدان للحموي 2/ 275، تاريخ الرسل للطبري 3/ 486.
وتم حفر العيون وجُهزت مناهل المياه وأماكن الرعي ومكان الاستراحات للقوافل، وهكذا بدأ الطريق يزدهر بالتدريج حتى وصل في العصر العباسي المبكر في أوج ازدهاره نظراً لوجود الأمن، ولأنه أصبح حلقة اتصال مهمة بين عاصمة الخلافة للعباسيين في بغداد والحرمين الشريفين وبقية أنحاء الجزيرة العربية.
وقد أمر أبو العباس أول الخلفاء العباسيين بإقامة الأميال ( أحجار المسافة ) والأعلام على طول الطريق من الكوفة إلى مكة، وذلك في عام 134هـ/ 751م، كما حجّ من هذا الطريق كثيرٌ من الخلفاء العباسيين مثل أبو جعفر المنصور حيث سافر من هذا الطريق ست مرات إلى مكة وذلك لأداء فريضة الحج، فحفروا على طول الطريق الآبار وأنشأوا البرك والأحواض و الأسواق وأماكن الاستراحات. وهكذا خدم الخلفاء العباسيون الباقيون لهذا الطريق فبنوا خزانات المياه، وأنشأوا الحصون على طول الطريق، خاصةً في زمن الخليفة هارون الرشيد حيث بلغت الحضارة الإسلامية في عهده عظمة ازدهار في الرقي الحضاري والتفوق العلمي. الذهب المسبوك للمقريزي (ص37).
زبيدة وإسهاماتها الجليلة لهذا الطريق
ما ذكره المؤرخون والجغرافيون يُظهر لنا مدى الجهد والوقت والمال الذي بذلته هذه السيدة لأجل راحة الحجاج،حيث حفرت الآبار على جميع المحطات وأنشئت البرك وبنت الاستراحات والحصون والقصور، وقد سميت البعض منها باسمها اعترافاً بجميل إحسانها مثل: بركة زبيدية، أو بركة لأم جعفر، وقصر لأم جعفر، وبركة زبيدية مدورة، وقد أشار الحربي إلى بعضها في كتابه المناسك (ص312)، كما ذكر الحموي تسعة منازل، اهتمت بها هذه السيدة الفاضلة وهي:
المحدث
وهو منزل يقع على ستة أميال بعد النقرة، والعنابة وهي عبارة عن بركة تقع بين توز وسميرة، وبركة أم جعفر التي تقع بين المغيثة والعذيب، والقنيعة، وهي بركة أخرى تقع بين الثعلبية والخزيمية، والحسنى، وهي بئر تقع على ستة أميال من قرورى قرب معدن النقرة، قرورى وهي محطة مزودة ببركة وقصر، وبئر، والزبيدية، وهي عبارة عن منزل يقع بين المغيثة والعذيب، وهذه المحطة مزودة ببركة وقصر (حصن)، ومسجد أم الهيثم، فهي تقع بين محيطة القاع وزبالة، ومزودة ببركة وقصر (حصن).
وقد شيّد تلك الجهود جميع المؤرخين حيث تذكر نبيهة عبود (Nabbia Abboud) أن الغرض الرئيسي من اهتمام زبيدة البالغ أنه كان لخدمة وراحة الفقراء والمحتاجين من الحجاج ممن تضطرهم ظروفهم المعيشية إلى أن يقطعوا مسافة طريق الحج الطويلة سيراً على الأقدام؛ لأن من يتتبع المنازل التي بنتها زبيدة على طول طريق مكة يجد على أنها كانت تقع في منتصف المسافة بين كلّ من المحطات والمدن المبنية قديماً.
وقد تأثر الرحالة ابن جبير عندما رأى طريق كوفة مكة حيث يقول في رحلته (ص165):» وهذه المصانع والبرك والآبار والمنازل التي من بغداد إلى مكة هي آثار زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور زوج هارون الرشيد وابنة عمه، انتدبت لذلك مدة حياتها فأبقت في هذا الطريق مرافق ومنافع تعم وفد الله تعالى كل سنة من لدن وفاتها إلى الآن، ولولا آثارها الكريمة في ذلك لما سلكت هذا الطريق والله كفيل بمجازاتها والرضا عنها»...
ويذكر لنا اليعقوبي كيف بزت زبيدة زوجها وتفوقت عليه سواءً في الأمور الهامة أو العادية، ومن أعمالها الهامة التي كان يوجد ما يماثلها قبل الفترة التي عاشت فيها أنها أمرت بحفر عين المشاش التي ذكرنا أنها تبعد حوالي 12 ميلاً من مكة، وقد كلفها ذلك المشروع ما يربو على مليون وسبعمائة دينار ( ألف ألف وسبع مئة ألف دينار)، كما أنشأت برك المياه والسبل لشرب المياه وكذلك أحواض الوضوء التي ينتفع بها المسلمون في منطقة الحرم المكي الشريف، كما أنشأت في المشاعر المقدسة ( في كلّ من منى وعرفات ) أماكن للاستراحة وأحواضاً للمياه وحفرت بهما الآبار، كما زودت طريق عرفات إلى مكة بآبار محفورة وأوقفت عليها من مالها الخاص ما يوازي ثلاثين ألف دينار سنوياً. مشاكلة الناس لزمانهم لليعقوبي (ص26).
كما نقل ابن خلكان عن ابن الجوزي : «....... أنها سقت أهل مكة الماء بعد أن كانت الراوية عندهم بدينار، وأنها أسالت الماء عشرة أميال بحط الجبال ونحتت الصخر حتى غلغلته من الحل إلى الحرم، وعملت عقبة البستان، فقال لها وكيلها: يلزمك نفقة كثيرة، فقالت: اعملها ولو كانت ضربة فأسٍ بدينار، فبلغت النفقة عليه ألف ألف وسبعمائة ألف دينار»... وفيات للأزرقي (1/ 144).
إنه يصعب تحديد المبالغ التي صرفتها السيدة زبيدة على إصلاحاتها لمرافق طريق الحج من الكوفة إلى مكة، إلا أنه إذا ما أخذنا إجمالي ما صرفته على قناة واحدة فقط في مكة، فإن المصروفات كانت باهظة، أما فيما يتعلق بتأمين الأموال لصيانة المنشآت المائية في مكة المكرمة فإن السيدة زبيدة تركت أوقافاً وغلات يبلغ ريعها ثلاثين ألف دينار سنوياً، كما أنها أنفقت في إحدى زياراتها للأراضي المقدسة ( أربعة وخمسين ألف ألف) خلال ستين يوماً فقط.
وقد نشأت على هذا الطريق ما يزيد عن 54 محطة رئيسة ومتعشى ومحطات أخرى مساندة، ومنها: المسلح، القصر، الغمرة، أوطاس، ذات عرق، غمر ذي كندة، بستان بني عامر، مشاش، ومن ثم إلى مكة المكرمة.
ولا تزال آثار الطريق واضحة حتى اليوم، وتتمثل في المحطات المندثرة، والبرك والآبار، وآثار رصف الطريق، والكتابات والنقوش التي كتبها المسافرون ومستخدمو الطريق على الواجهات الصخرية التي يمر بها الطريق، بالإضافة إلى آثار القلاع والقصور والأعلام وغيرها.
ويلتقي طريق البصرة -مكة المكرمة- مع طريق درب زبيدة عند ذات عرق في الموقع المسمى اليوم ( الضريبة )، كذلك ترتبط مكة بطريق تجاري قديم ينطلق من مكة إلى وادي سرف، وبطن مر، وعسفان، والسيالة، وملل، والشجرة، ثم المدينة المنورة.
وتتصل مكة أيضاً بالمدينة المنورة بواسطة الطريق السلطاني الذي يمر عبر حرة رهاط حيث يتفرع من درب زبيدة عند المسلح، ومنه إلى حاذة وصفينة والسوارقية.
وبالنسبة للطرق التي تصل مكة بالطائف فهناك طريقان : طريق غرزة، وطريق خروب، وقد سلك الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الطريق عندما انصرف من الطائف حتى نزل الجعرانة.
بلغ طول الطريق لدرب زبيدة من الكوفة إلى مكة المكرمة 1276.7كم، منها نحو ستمائة كيلومتر تمر بمنطقة مكة المكرمة،كما بلغ عدد المحطات على هذا الطريق سبعاً وثمانين محطة، ويقع جزء من الطريق في منطقة مكة المكرمة.
ويحسن بنا الإشارة بإيجاز إلى بعض المعالم الباقية على امتداد طريق الحج في منطقة مكة المكرمة ومنها: بركة العقيق، وهي من أكبر البرك المدرجة ذات الشكل الرباعي، وتقع على الضفة الغربية لسهل ركبة وقد بنيت البركة بأسلوب معماري وهندسي متطور. وبركة الخرابة، تقع شمال شرقي بركة العقيق على طريق الحاج البصري، وبركة العلوية، وعين زبيدة بمكة، وقد أطلق على هذه العين اسم زبيدة للدور البارز الذي قامت به، وقد بلغ طول هذه العين عشرة أميال تقريباً، أو ما يعادل ستة عشر كيلو متراً. وقد أنفقت زبيدة الكثير من أموالها وجواهرها لتوفير المياه العذبة والراحة لأهل مكة والحجاج وتحميهم من كارثة الموت. حيث قيل إنه بلغ مجموع ما أنفقته على هذا المشروع مليوناً وسبعمائة ألف مثقال من الذهب. أي: ما يساوي خمسة آلاف وتسعمائة وخمسين كيلو غراماً. ويستطيع القارئ والقارئة أن يحدد قيمة كيلو الذهب الخالص ويضربه فيما أنفقته، إنه مبلغ أقرب إلى الخيال، ولاسيما في القرن الثاني زمن إنشاء هذه العين.
إن منبع هذه العين من الجبال التي تقع شرق مكة ومن وادي النعمان، حيث أمرت بأن تُشقّ للمياه قناة في الجبال، كما قام المهندسون بحفر عيون وقنوات مساندة للعين الأم لضمان رفع منسوب المياه. ومن هذه العيون، عين حشاش، وعين ميمون ( عين ميمونة) وعين الزعفران، عين البرود، وعين الصَّفدة، عين الطارفي والحربيات، وأوصلت السيدة زبيدة مياه هذه العيون حتى مكة المكرمة، ثم أمرت أن تُدار القناة على جبل الرحمة، وأن تجعل منها فروعاً إلى البرك التي في أرض عرفة ليشرب منها الحجاج يوم عرفة، وهيأت الأماكن الخاصة لذلك على شكل حنفيات حجريّة جميلة لكي يشرب الحجاج منها بكلّ يسر وسهولة، كما بُني في هذه القنوات الملتفّة بجبل الرحمة مجارٍ لتجميع مياه الوضوء وصرفها إلى المزارع المجاورة التي كانت موجودة في السابق. ومن ثمَ تصل إلى المزدلفة وإلى جبل خلف منى، ثم تصبّ فى بئر عظيمة مرصوفة بأحجار كبيرة جداً تُسمّى بئر زبيدة في منطقة تُسمّى اليوم بمحبس الجن، إليها ينتهي امتداد هذه القناة العظيمة (قناة عين زبيدة).
وهكذا استطاعت السيدة «زبيدة» أن ترفع عن كاهل الحجاج والمعتمرين معاناتهم من قلة المياه وارتفاع ثمنه بإيجاد هذه العين وخاصة عن الفقراء الذين كانوا يؤدون فريضة الحج سيراً على الأقدام، فمنذ أكثر من ألف ومائتي عام وعين زبيدة تروي عطش الحجاج القادمين إلى مكة المكرمة لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام في هذه المنطقة شبه الصحراوية. وقد قام بإصلاحها منذ إنشائها العديد من الملوك والأمراء والسلاطين. وفي العهد السعودي أي: في عهد الملك عبد العزيز - رحمه الله- أُنشئت إدارة خاصة لإدارة العين سُمّيت (عين زبيدة) تشرف إشرافًا كاملاً على العين والآبار الخاصة بها وترميمها. وهكذا استمرت هذه العين شامخة قوية لأكثر من ألف ومائتي سنة إلى عهد قريب، إلى أن استُعيض عنها بمياه البحار الناتجة عن محطات التحلية الضخمة، وذلك بسبب شحّ المياه فيها وتدمير أغلب قنواتها بسبب التطوّر العمراني في مكة المكرمة.
هذه الآثار الباقية على طريق الحج توضح عظمة المنجزات الإسلامية التي أنشأها المسلمون الأوائل من خلفاء وأمراء وسلاطين ووجهاء وأعيان من محبي الخير والتقرب إلى الله، ولازلنا نشاهد أنماط البرك ذات التصاميم المعمارية المتنوعة والآبار والقنوات وآثار هندسة مسار الطريق من قطع في المناطق الجبلية الوعرة، وأعمال الرصف والتمهيد، والأعلام والأميال وقد خلد التاريخ طريق زبيدة وقدمت الكثير من الدراسات في المواقع المختلفة على هذا الطريق.
لا يمكن نسيان هذا المعلم، بل لابد من إحيائه وتعليمه لأبنائنا وأجيالنا القادمة وتعريفهم بمآثر حضارتنا الإسلامية منذ مئات السنين، وكيف صمدت طوال هذه القرون؛ وزبيدة تعتبر إحدى النماذج للنساء العربيات اللاتي كان لهن أثر كبير في التاريخ الإسلامي. ولا تزال مواضع عديدة من قنوات عين زبيدة باقية إلى الآن تروي لنا تاريخاً ملموساً نفخر ونعتز به على مدى الأيام والأعوام.