محمد سليمان العنقري
عندما يفتقر البعض للقدرة على تحليل الأحداث ولا يمتلك ربط تسلسل المعطيات وجذورها ويتعامل مع الحدث نفسه فقط ولديه حب تصدر المشهد وإعطاء قراءة من نسج خياله فأسهل طريق أن يحيل ما يجري لنظرية المؤامرة الكونية فيطرح افتراضات غير واقعية ويلبسها ثوب الحقيقة القطعية والمشكلة أن لهؤلاء المدعين للثقافة والعلم ببواطن الأمور جمهوراً ينتظر رأيهم بكل حدث حتى لو كان في تخصصات دقيقة بعيدة عن تاريخهم الدراسي أو الوظيفي فمثل هؤلاء ليسوا أكثر من مرضى للشهرة والأخطر في الأمر أن هناك وسائل إعلام من قنوات فضائية أو إعلام مسموع أو مقروء ممن يفضلون المواضيع المثيرة للجدل حتى لو كانت سطحية وتافهة تعطيهم الفرصة لنشر الجهل والتضليل على الناس وسوقهم يكون أكثر رواجاً في فترات الحروب والأزمات الاقتصادية أو انتشار الأوبئة، فالحديث ليس عن الدجالين الذي أصبحوا يتكاثرون بشكل كبير في الفضائيات ممن ينشرون توقعات العام الجديد تحت تفسير أن ذلك مجرد إلهام، إنما عن فئات من طبقة مثقفة ومتعلمة ولهم كتابات ومشاركات في الإعلام ويعطون تحليلات مفصلة عن هواجيسهم أي أننا أمام عرافين مشعوذين لكن (مودرن) أي بقالب ثقافي وفكري لكنه يمثّل خطورة بالغة في نشر الجهل في المجتمعات.
فبعضهم خرج علينا بتحليل عن مؤامرة تحدث في العالم عن المناخ وأن ذلك التغيير بفعل فاعل من خلال إرسال أجسام طائرة تعمل على أحداث فيضانات أو نشر مواد تهلك الزرع لتزيد من فقر الدول أو استخدام تقنيات تحت البحار تحدث زلازل في مشهد تحليلي لا يقبله عقل أو منطق فأين الدول التي تتضرر من كل ذلك ألا يوجد لديهم أجهزة رصد وقبل كل ذلك هل تستطيع دولة أن تنشر آلاف الأجسام الطائرة لمثل هذه الأغراض فهذه مجرد تخيلات ناتجة عن عدم القدرة لتفسير ما يجري فالحقيقة إن التغير المناخي مفسر ومعروفة أسبابه منذ عقود وهو يرصد وتجرى أبحاث من كل الدول حوله ولا يوجد مؤامرات فيه لأن العالم اليوم مترابط مع بعضه وظواهر التغير المناخي موجودة في كل جغرافيا الأرض وليست في مكان واحد إنما طريقة معالجته هي محل الخلاف بين الدول، أما في الحروب فتبدأ التحليلات من أن الدولة المعتدية فاجأت العالم بحربها ومن ثم ينطلقون إلى التبعات التي تشعرك أننا نعيش نهاية الكون فحرب روسيا على أوكرانيا لم تكن وليدة صدفة، بل تراكمات بدأت منذ اللحظات الأولى لتفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991 والخلافات على عدم التزام حلف الناتو بالتعهد بعدم توسيع الحلف ليصل إلى حدود روسيا وما حصل أن الناتو أخل بوعده ووصل فعلياً إلى مواقع حدودية يستطيع أن يرى نوافذ موسكو وهو ما اعتبرته حكومة الرئيس بوتين تهديداً للأمن القومي وتوقعات حربه على أوكرانيا كانت مرصودة وبدأت فعلياً على الأقل منذ ضم جزيرة القرم عام 2014 ومن ثم التجهيز للحرب عبر عدة إجراءات مالية واقتصادية وعسكرية.
كما خرج علينا بعض من هؤلاء المدعين للعلم بكل شيء ليفسروا الأزمة المالية العالمية التي بدأت عام 2008 ليقولوا إنها مفتعلة من أمريكا مع العلم أن أكبر متضرر هو الاقتصاد الأمريكي فقد كان الدين العام 10 تريليونات دولار في حينها ويعادل 59 بالمائة من الناتج الإجمالي الأمريكي وحتى تتخلص واشنطن من تبعات هذه الأزمة العاصفة ارتفع دينها العام 150 بالمائة حتى عام 2020 أي قارب 25 تريليون دولار وتخطى نسبة 100 بالمائة من الناتج الإجمالي بل إن ذلك أضعف قوة أمريكا خارجياً وأيضاً هز الثقة بعملتها وكان من نتاج تلك الأزمة ظهور العملات المشفرة واتجاه البنوك المركزية لاقتصادات دول عديدة مثل الصين وغيرها لرفع احتياطياتها من الذهب والتخطيط لتقليص حيازتها للدولار في احتياطياتها فبكين كتن لديها ما يقارب 1.2 تريليون احتياطيات دولارية بينما انخفضت على مدار السنوات ما بعد الأزمة المالية إلى 770 مليار أي انسحاب تدريجي إضافة لظهور تحالفات اقتصادية ترغب في التعامل التجاري والإقراض بعيداً عن الدولار فهل أمريكا سعت لتدمير العالم فانقلب الأمر عليها بكل تأكيد هذا غير صحيح وما حدث هو نتيجة أخطاء بدأت من عام 1992م عندما بدأ التوسع بالرهن العقاري ليشمل فئات غير مؤهلة مالياً وتبعه قرارات سمحت للبنوك التجارية الكبرى بدخول سوق التمويل العقاري بشكل واسع ومنفلت والذي تحول إلى كارثة يصعب تجاوز تبعاتها وقد أصدرت مؤسسات مالية عديدة وخبراء اقتصاد ومستثمرين كبار تقارير أكدوا فيها أن خطر نشوب أزمة مالية أصبح كبيراً جداً وكانت أغلبها في العام 2006 أي قبل الأزمة بعامين وأما آخر ما نسجته مخيلتهم هو مؤامرة وباء كورونا وهو الذي لم تسلم من تبعاته أي دولة، بل إن أمريكا وصل دينها العام حالياً إلى 34 تريليوناً أي بزيادة 9 تريليونات من جراء تبعات هذا الوباء وأصبح سداد الدين يشكل نسبة كبيرة من ميزانية الحكومة الفيدرالية إضافة إلى أن عدد المصابين والوفيات في أمريكا وأوروبا والصين وغيرهم من كبار الدول من الأعلى بالعالم فكيف لمتآمرين أياً كانوا أن ينشروا وباء في العالم ويعلمون أنهم معرضون للإصابة به فهم بهذه الحالة كمن يطلق الرقاصة على قدمه! فالتقارير التي حذّرت من انتشار الأوبئة موجودة من سنوات طويلة نتيجة تعامل البشر الخاطئ مع البيئة ومن يعود للبحث عن تلك التقارير سيجد أن عددها بالآلاف وصادرة من مراكز بحثية بعشرات الدول.
تحكيم العقل والعودة دائماً للواقع والمنطق والبحث في أي أزمة ومتى بدأت بذورها هو ما يقرب من الحقيقة ويرفع من دوجة وعي المجتمعات لتسهم في معالجة أي حدث أو أزمة وليس الارتهان وتسليم العقل لمدعي المعرفة من الدجالين الجدد الذين يلبسون قبعة المثقف فما ينثرونه من أفكار وقراءات مضللة له أضرار كبيرة على المجتمع وبعد سنوات لن يحاسبهم أحد ممن تضرر بسبب قراءاتهم أو توقعاتهم الخاطئة خصوصاً في المجالين الصحي والاقتصادي لأنهما يمسان الأفراد بشكل مباشر.