م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1 - رفع المجتمع العربي القديم من قيمة الإبداع الشعري.. لذلك صار الشعر ديوان العرب.. وعُلِّقت فرائد الشِّعر على أستار الكعبة بعد إقامة المنافسات له وللشعراء في أسواق العرب المشهورة التي كانت تتوافد عليها القبائل من كل حدب وصوب.. فصار الشاعر لسان القبيلة والمتحدث باسمها الذي تقدم به نفسها للمحيط وتوثّق من خلال شعره تاريخها.. فلم يزاحم الشعر والشعراء أحد طوال التاريخ العربي.
2- ومنذ نشأة الحضارة العربية الإسلامية نُظِر إلى السرد بمنظار دوني، بل وملوث عقدياً.. ففي مرحلة الدولة الأموية (وهي مرحلة جمع الأحاديث النبوية) كثر الوعاظ والمذكرون الذين يستخدمون القَصَص للترغيب لجذب الناس والتأثير فيهم.. واشتهر بعضهم باختلاق الأحاديث والكذب على رسول الله في سبيل إقناع المستمعين حتى أصدر الخليفة «المعتضد بالله» أمراً بمنع القُصَّاص.. ورغم اختلاف المؤرِّخين على سبب المنع إلا أن النتيجة كانت النظر إلى القصّ على أنه جريمة.. وتلويث مخيلة الناس عن القُصَّاص بأنهم كَذَبَة يجب ملاحقتهم وإسكاتهم.. بل وربطوا ذم القصص والقصاص بحديث الرسول الكريم: «إن بني إسرائيل لما هلكوا قَصُّوا».. ونسوا قول الله تعالى في سورة يوسف: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}.. وتبجيله للقصص في سورة الأعراف: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، بما عَلِم سبحانه من قوة أثرها على النفس.
3- بسبب كل ذلك تم إغفال الإبداع السردي وحُرم من أن يُصنَّف إبداعاً.. واستمرت الرواية مجرد حكاية لا يزيد دورها على التسلية ويُسمى الراوي لها «حكواتي».. وإذا كان راوي الشعر له مكانة ومقام رفيع من الاحترام فالحكواتي لا يزيد على أن يكون مهرجاً مسلياً.. لذلك لم تستحق الروايات في التراث العربي حتى التدوين.. مما جعل قصصاً مثل «ألف ليلة وليلة» وسيرة عنترة بن شداد وأبو زيد الهلالي تدور في المجال الشفهي لقرون ولم تُدَوَّن إلا في مراحل متأخرة.. حتى إن من دَوَّنها وكأنه يريد أن ينزه نفسه عن فِعْل مشين لم يذكر اسمه على التدوين.. فلا أحد يعرف على وجه التحديد من الذي أبدع تلك القصص والسِّيَر ولا أحد يعرف من دَوَّنها.. إلى أن قامت المجتمعات الأوروبية في عصر النهضة بقراءة تلك المدونات السردية.. وأعادت اكتشافها وإعطاءها قيمتها التي تستحقها.. بما فيها من خيال وإبداع ورمزية وحكمة في مرويات فيها حبكة متقنة.. مما جعلها ذات قيمة عالية في التراث الإنساني.. فبدأ العرب بالتفاخر بها.
4- في زماننا المعاصر انزاح عن كاهل السرد وزر التلويث والإبعاد من دائرة الإبداع.. بل إننا نرى اليوم أن الرواية أصبحت هي ديوان العرب وليس الشعر.. فالشعر تعرّض للتجزئة والتصنيف ولم يعد الشعراء والمهتمون بالشعر يتفقون على ما هو بشعر وما ليس بشعر.. بل إنهم لم يعودوا يتفقون على من هو الشاعر! ومن جهة أخرى أصبحت معارض الكتب تزخر بالروايات والمهتمين بها مقابل حضور ضعيف للشعر والشعراء وقلة من المهتمين.
5- يعود سبب نشأة الرواية العربية، واكتمال ملامحها، واستيفاء عناصرها، وتنوّع مضامينها إلى التحولات المتسارعة التي شهدتها البلدان العربية في الحياة الاجتماعية، والميادين السياسية والاقتصادية والعلمية بعد الحرب العالمية الثانية.
6- أجبرت هزيمة عام 1967م الكتّاب العرب على التحوّل إلى أنماط روائية جديدة.. واعتمدوا على تقنيات سردية حديثة.. وابتعدوا عن التقليدية والرومنسية.. وولجوا عوالم السرد الخيالي والتاريخي والصوفي برمزية جعلتها أكثر نضجاً وعمقاً وأشدّ تعقيداً وغموضاً.