د. تنيضب الفايدي
وحينما امتد حكم الملك عبد العزيز إلى الحجاز أصبح الأمن منتشراً في كلّ المكان، فكلّ من يخرج إلى الحج سواء من اليمن وتهامة الحجاز والبصرة والبحرين وعمان ونقرة الشام لا يحمل سلاحاً بل سلاحه عصاه، لا يخشى كيد عدو ولا أحداً يريبه بسوء.
أذاع الملك عبد العزيز رحمه الله بياناً على العالم الإسلامي بعد دخول جيشه مكة جاء فيه: «دخلت جيوشنا مكة في السابع عشر من ربيع الأول 1343هـ الموافق السادس عشر من أكتوبر سنة 1924م، وإننا لمغتبطون أشد الاغتباط للاحترام الذي بدا نحو الأماكن المقدسة... ولقد قضينا على الظلم ونشرنا العدل في ربوع البلاد، وليس أشهى إلى قلوبنا من إقبال المسلمين على الحج من كل أنحاء العالم الإسلامي... الطرق مفتوحة في وجوهكم أيها المسلمون ولن يتعرض أحدكم بسوء، فاطمئنوا كل الاطمئنان، ونحن سنذهب إلى مكة لنجتمع بالوفود الإسلامية التي نرحب بها».
وقبل السفر إلى مكة قال: «إني مسافر إلى مكة لا للتسلط عليها.. بل لرفع المظالم التي أرهقت كاهل العباد... إني مسافرٌ إلى مهبط الوحي، لبسط أحكام الشريعة، ولن يكون في مكة بعد الآن سلطان لغير الشرع، سأجتمع بوفود العالم الإسلامي هناك، وأتبادل معهم الرأي في كل الوسائل التي تجعل بيت الله بعيداً عن شهوات السياسة، وتحفظ راحة قاصدي حرم الله».
ومن خلال الخطاب تتضح سياسة الملك عبد العزيز المرتكزة على حفظ الأمن والعمل على ذلك من خلال اختياره للكلمات فيقول في خطابه بأنه مسافر إلى مكة ليرفع الظلم الذي عانى منه أهلها، ويطمئنهم بأنه يطبق الشريعة الإسلامية، وسيتشاور مع غيره من مسلمي العالم لتحقيق الطمأنينة لقاصدي بيت الله الحرام، وبذلك يتحقق هدفه وهو نشر الأمن. وكان أساس التنظيمات والإصلاحات التي قام بها الملك عبد العزيز هو الشريعة الإسلامية، فكان يؤكد دائماً أن أساس الأحكام في دولته هو الشرع ومن أقواله في ذلك: «وإنكم تعلمون أن أساس أحكامنا ونظمنا هو الشرع الإسلامي، وأنتم في تلك الدائرة أحرار في سن كل نظام وإقرار العمل الذي ترونه موافقاً لصالح البلاد على شرط ألا يكون مخالفاً للشريعة الإسلامية.
وقد ترك هذا الأمن على مظاهر الحياة اليومية أثراً كبيراً حتى أن أصحاب المحلات في الأسواق يذهبون لأداء الصلاة ويتركون محلاتهم مفتوحة لثقتهم بأنها في مأمن من الاعتداء وأن من يحاول فعل ذك فسيلقى جزاءه.
وهكذا نجح الملك عبد العزيز رحمه الله في فترة حكمه في تحويل المنطقة من انعدام الاستقرار إلى دولة منظمة تنعم بالسلام والأمن.
يصف المؤرخ الزركلي استتباب الأمن في المملكة، بعد توحيدها وأن الحال تغير عما كان قبل ذلك حيث تبدل الخوف أمناً، والقلق راحة واستقراراً، فيقول في كتابه في شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز (ص451): «إن الأمن في المملكة كان ولا يزال مضرب المثل، وما من إنسان دخلها، حاجاً أو معتمراً، أو سائحاً أو زائراً إلا عاد منها بحيث إذا سئل عن الأمن تحدث بالأعاجيب».
فمن قصة ذلك: رجل سقطت حقيبته بين مكة والمدينة ولم يلبث أن قرأ في صحيفة (أم القرى) خبر العثور عليها، إلى قصة آخر، عاد فوجد ما أضاعه حيث سقط، لم تمسه يد إلى أخبارٍ مثل هذه، هي أشبه بنسج الخيال، لكنها حقائق.
ويواصل الزركلي وصفه فيتساءل قائلاً: «نحن أمام الواقع المشاهد، ألا يُغلق أصحاب المتاجر بيوت تجارتهم في كل بلد من بلاد العالم، إذا أرادوا التغيب عنها؟ وتلك أسواق مكة وجدة والمدينة والطائف والرياض، وبريدة وعنيزة، وعشرات المدن الأخرى، ومئات القرى، يضع فيها التاجر عصاً أو كرسياً أو قطعة صغيرة من القماش على المكان البارز من دكانه، ويمضي ثم يعود وكأنه لم يغب».
قال الأمير شكيب أرسلان في كتاب: (الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف) (3/ 1034)، وكان قد أدى فريضة الحج سنة 1348هـ ما نصه: (الأمن الشامل في بلاد الملك العادل الإمام عبد العزيز آل سعود: كنت صاعداً مرة من مكة إلى الطائف وكانت معي عباءة أحسائية سوداء جعلتها وراء ظهري في السيارة، فيظهر أنها سقطت من السيارة ولم نتنبه لها، فأخذ الناس يمرون فيرون هذه العباءة ملقاة على قارعة الطريق فلا يتجرأ أحد أن يلمسها، بل شرعت القوافل تتنكب عن الطريق عمداً حتى لا تمر على العباءة خشية أنه إذا أصاب هذه حادث يكون من مر من هناك مسؤولاً، فكانت هذه العباءة على الطريق أشبه بأفعى يفر الناس منها، بل لو كانت ثمة أفعى ما تجنبوها هذا التجنب كله، وأخيراً وصل خبرها إلى أمير الطائف محمد بن عبدالعزيز من سلالة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، فأرسل سيارة من الطائف أتت بها، وأخذ بالتحقق عن صاحبها فقيل له: إننا نحن مررنا من هناك وأن الأرجح كونها سقطت من سيارتنا، فجاء الأمير ثاني يوم يزورنا وسألنا: هل فقد لكم شيء من حوائجكم في أثناء مجيئكم من مكة؟ فأهبت برفاقي ليتفقدوا الحوائج فافتقدوها فإذا بالعباءة السوداء مفقودة، وكنا لم ننتبه لفقدانها، فقلنا له: عباءة سوداء أحسائية قال: هي عندنا، وقص علينا خبرها. وقد أتيت على هذه النادرة هنا مثلاً من أمثال لا تعد ولا تحصى من الأمن الشامل للقليل والكثير في أيام ابن سعود مما لم تُحدث عن مثله التواريخ حتى اليوم، فالمكان الذي سقطت فيه العباءة كان في الماضي كثيراً ما تقع فيه وقائع السلب والقتل ولا يمر الناس فيه إلا مسلحين»...
وقال الدكتور حسين مؤنس في مقال بعنوان: (قبل خمسين عاماً كانت حجتي الأولى) وكان قد أدى فريضة الحج سنة 1357هـ نقلاً عن المطوف موسى الهزان من أهالي مكة المكرمة ما نصه: (إن الفضل في هذا يرجع إلى رجل واحد هو جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود الذي أنقذ الأراضي المقدسة بضمه الحجاز وقواعده الثلاث مكة والمدينة والطائف سنة 1344هـ إلى مملكته، ومن ذلك التاريخ أمنت البلاد المقدسة وعرفت الحكم الصالح والنظام، وقبل ذلك أيام الشرفاء ما عرفنا إلا الفوضى والظلم حتى كان اللصوص يعتدون على الحجاج، ولا أصور لكم حزم هذا الرجل وملوكيته ومعرفته بشؤون الإسلام والعروبة والعدل والنظام، وقد رأيت أنا العصرين وأستطيع أن أحدثكم عنها حديث العارف الواثق. هذه البلاد بعثت بعثاً جديداً على يد هذا الملك العظيم الذي عرفنا على يده الدين والعدل والنظام).
هذا غيض من فيض عن الأمن الذي أرسى دعائمه صقر الجزيرة الملك عبدالعزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله تعالى- ومن بعده أبناؤه الميامين، بسبب جهوده رحمه الله فقد استبدل النهب والسلب والقتل مع الحجاج القادمين من الخارج بتقديم المساعدة والمعاهدة على حفظ الأمن، فليعرف الجميع بأن الأمن الذي ينعم به الآن جاء بعد جهد كبير من القائد الملك عبد العزيز رحمه الله، فعلى كل فرد أن يقدر تلك النعمة العظيمة، كما عليه أن يعرف بأن مسؤولية الأمن الوطني ليست محصورة على عاتق الأجهزة الأمنية فقط، بل هي مسؤولية كل فرد من أفراد المجتمع، وإن النجاح لتوفير الأمن والاستقرار يستدعي تكاتف الجهات الأمنية والأفراد والوقوف صفاً واحداً.
وفي الأخير نسأل الله سبحانه وتعالى أن يديم على بلادنا أمنها ورخاءها وأن يحفظ لنا ولاة أمرنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه..