ا. عبدالعزيز القاضي
وأما الابتكار بـ(المزج) بين البحور باستخدام تفعيلتين مختلفتين، فقد مثل له الخالدي ببيتين نظمهما على سبيل التجربة، فقال(1): «ولو أخذنا مثلًا تفعيلتي (فعولن - مستفعلن) وحاولنا مزجهما بصورة (فعولن - فعولن - مستفعلن) لتولد لدينا نظام مرتبك الموسيقى، كالآتي:
دروبي تراها مثل السراب
خلاص انقضت قصة حبنا
تعود على بعدي والغياب
تصبر على حكم ربنا»
قلت: والأوزان لا تصنع بهذه الطريقة، ومبتكروها من الشعراء لا يعرفون التفعيلات حتى يركبوا الشعر عليها هكذا، وإنما يترنمون بـ(اللحن) أولًا ثم يركبون عليه البيت، فـ(الألحان تسبق الأوزان). أما هذا الترتيب البصري برسم التفعيلات، ثم خلطها، ثم تركيب الشعر، فهو الذي يولد الارتباك في النظام الموسيقي. وإذا فسد تصور الطريقة الصحيحة في (اختراع الأوزان الجديدة وابتكارها)، بطل الحكم باستبعاد إمكانية الابتكار. أما الابتكار عن طريق (المزج) بين البحور في الشطر الواحد فأتى به شعراء المحاورة وغيرهم، ولم يختل فيه النظام الموسيقي ولم يرتبك، لأنهم اخترعوا لحنه، واختبروا جودته موسيقيًا أولًا، ثم ركبوا عليه الشعر ثانيًا. ومن ذلك على سبيل المثال قول ابن دويرج:
يالله يالله لا تجزى بنو الخير غرو غرير
عسى عرضته يوم اعترض ما هيب لي عايده
مستفعلن فاعلن مستفعلن مستفعلن فاعلان
مستفعلن فاعلن مستفعلن مستفعلن فاعلن
فهذا البيت وهو مطلع قصيدة، امتزج فيه بحران أحدهما (البسيط) وهو ما يسميه مجتمع الشعر النبطي (الهجيني الطويل)، والآخر (السريع)، فتولد منهما بحر جديد ليس له مثيل في بحور الخليل.
وأما النوع الرابع من أنواع الابتكار في أوزان الشعر النبطي، حسب رصد وتصنيف إبراهيم الخالدي وهو (المد والإنقاص) فنقص الشطر بتفعيلة واحدة من آخره هو (مجزوء البحر)، وبتفعيلتين من أربع هو (المشطور) وبتفعيلتين من ثلاث هو (المنهوك). وأما الزيادة والنقص في الحروف والمقاطع فداخلان في (الزحافات والعلل). وأما (الزيادة) بالتفعيلات ففيه تفصيل، فإن كانت الزيادة بـ(تفعيلة) أو أكثر في بحر (أحادي التفعيلة) وهي البحور الصافية أو المفردة، فهي من (التكرار) وذكرنا رأينا فيه. وإن كانت الزيادة فيه في بحر (ثنائي التفعيلة) وهي البحور المختلطة أو المركبة، وجاءت في آخر الشطر فهي من (المد) لا من الابتكار. أما إن كانت في (الحشو) في تسلسل غير متسق، فهنا (مربط الفرس!) وهنا تشرق شمس (الابتكار والتجديد) ساطعة. وهذا تجديد (وزن) لا تجديد (لحن) كما يراه الخالدي وكما يلمح إليه ابن عقيل وغيرهما، وإذا لم يكن هذا تجديدًا وابتكارًا فكيف يكون التجديد والابتكار؟
وقال الخالدي أيضًا(2): «ومما ذكره الشايع (يقصد أحمد الناصر الشايع) من الألحان التي قام بإدخالها إلى القلطة قوله:
سلام الله سلام يوصل الشاعر حدود السحاب
وإلى وصل السحاب وصار بين السما والقاع طاح
وهذا اللحن عروضيًا - الكلام لا يزال للخالدي - هو (مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن فعولن فعولن) وبالتالي فإنه مولد من مزيج بحر (الهزج) مع (المتقارب)، وهو لحن (طاروق) جديد لا يأخذ صفة البحر. ويبدو أن الشايع مولع بهذه الطريقة في المزج...». قلت: وإذا كان البيت كما يقول الخالدي مزيجًا من بحري (الهزج) مع (المتقارب)، فلماذا (لا يأخذ صفة البحر)؟ أليس البيت - كما يقول - من مزيج هذين البحرين؟ أليس اجتماع هاتين التفعيلتين بهذا العدد، وهذا الترتيب ليس له مثيل في بحور الخليل ولا في دوائره؟ إن هذا التوقف نتيجة من نتائج الخلط بين الألحان والأوزان. ويتضح هذا الخلط عنده أكثر في استشهاده بكلمة قالها صياف الحربي في لقاء ذكر أن مجلة (المختلف) أجرته معه، قال إن صيافًا(3): «صرح في لقاء أن لديه (لحن واحد) مع الشاعر مستور العصيمي يمكن غناؤه على خمسين نغمةً مختلفة، وهو هنا يوضح - الكلام لا يزال للخالدي - نقطةً مهمة، وهي أن التجديد قد يكون في إطار النغمة داخل الطاروق الواحد». قلت: ونحن لا نخطئ الشعراء فيما تعارفوا عليه من المصطلحات، وهم يستخدمون مصطلح (الطرق) أحيانًا بمعنى (الوزن)، وأحيانًا أخرى بمعنى (اللحن). كما أنهم يستخدمون مصطلح (اللحن) بمعنى الوزن أحيانًا. لذلك فإننا نرى أن كلمة (اللحن) في عبارة صياف المقصود بها (الوزن)، و(النغمة) المقصود بها (اللحن)، فالوزن الواحد هو الذي يمكن أن يغنى بألحان كثيرة قد تزيد على الرقم الذي ذكره صياف، ولا نعرف في الموسيقا أن (اللحن) يغنى بعدة نغمات، وإنما نعرف أن (الوزن) يغنى بعدة ألحان! فـ(النغمة) في اللغة: (جرس الصوت وحسنه)، وفي الموسيقا: جزء من اللحن، فهي له بمنزلة الحروف للكلام(4). واللحن يعتمد على (التركيز) و(التنغيم) و(النبر)، كما يعتمد على الإسراع والإبطاء في نطق المقاطع الصوتية، وعلى تمطيط الحروف وقبضها وبسطها لسد خلل الوزن، وهو ما أسميناه في موضوع آخر (التحايل الصوتي)، قال الجاحظ(5): «العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، فتضع موزوناً على موزون، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن، فتضع موزوناً على غير موزون». وأما بيت أحمد الناصر الشايع رحمه الله، وهو:
سلام الله سلام يوصل الشاعر حدود السحاب
وإلى وصل السحاب وصار بين السما والقاع طاح
فنخالف في قوله إنه مزيج من بحري الهزج والمتقارب، ونرى أنه من (الهزج) ليس غير، غير أن تفعيلتيه الأخيرتين (محذوفتان)(6)، فهو على(مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعي مفاعي). ودخول الزحافات والعلل في الشعر النبطي، سواء في (الأعاريض) و(الأضرب) أو في (الحشو)، ليس خاضعًا لنظام دخولها في الشعر الفصيح كما ذكرنا من قبل. فهذا البيت ليس فيه ابتكار بل تكرار.
الطروق الدويرجية:
الشعر النبطي هو الامتداد العامي للشعر الفصيح، في الشكل والمحتوى، وفي الأوزان والمعاني والأخيلة والأساليب، وغيرها، هذا ما أدركناه وعرفناه من خلال الاطلاع والدراسة، ومن خلال التأمل والمقارنة، ومن خلال التذوق أيضًا، ولا يخالجنا شك في هذا. ليس لأن البيئة والظروف التي نشأ فيها الشعر النبطي هي نفسها البيئة والظروف التي نبت فيها الشعر الفصيح، ولا لأن شعراءه في الجزيرة هم أحفاد أبناء القبائل العربية القديمة التي ينتمي إليها شعراء الفصيح الأقدمون.. ليس هذا فحسب، بل لأن (المزاج) الذي أفرز الشعر الفصيح لا يزال هو نفسه المزاج الذي أفرز الشعر النبطي. والشعر النبطي هو كما ذكر الشيخ حمد الجاسر رحمه الله (ت 1421هـ)(7): «مظهر واضح لعاداتنا وتقاليدنا، وسجل لكثير من تعابيرنا ولهجاتنا، ومنه تتضح بعض الحقائق التاريخية، كقول محمد ابن هادي شيخ قحطان (على المسحوب):
لي لابة حدرتها من تهامه
وسلاحها دهم الفرنجي والاروام
لا بد من يوم يثور كتامه
أما على المطران وإلا على يام
فإذا قرأنا هذا الكلام أدركنا أن هذه القبيلة التي يرأسها ابن هادي كانت تقيم في تهامة، ثم طرأت إلى نجد. فهذان البيتان -الكلام لا يزال للجاسر - يظهران لنا حقيقةً تاريخية، ويعبران عن سجية أصيلة في نفوس البادية».
قلت: وسنقصر الحديث هنا عن العلاقة بين الشعرين (الفصيح والنبطي) على مجال (الأوزان) فقط، وعلى وجه أخص على ما انفرد به الشعر النبطي من تحليق حر في عالم موسيقا الشعر، أفصح عن قدرة مبدعة باهرة على توليد موسيقا شعرية جديدة لا عهد للفصيح بها؛ لأن نظامه الخليلي، وحماة هذا النظام من علماء اللغة والأدب، لا يسمحون بتخطي ضوابط الخليل المحكمة. فقد ابتكر بعض شعراء النبط (بحورًا جديدةً) ذات موسيقا مركبة معقدة، لكنها في عالم الموسيقا أصيلة. ولم يجرؤ المنظرون للشعر النبطي على الاعتراف بهذه البحور الجديدة، ولذلك علقوها على شماعة (الألحان) كما مر، مع أنها أوزان لا ألحان، وهذا من الخلط العجيب بين الشعر والفن(8)، والأعجب من هذا أنهم في بعض الألحان يجعلون بعض الألحان أوزانًا!
وأشرنا من قبل وأشار كثيرون قبلنا إلى أن ساحات شعر القلطة (المحاورة) كانت - ولا تزال - هي المحاضن الطبيعية الأولى التي نشأ فيها التجديد في أوزان الشعر وألحانه، وتولد من هذا التجديد الخلاق (بحور شعرية) جديدة خارجة عن بحور الشعر الفصيح الستة عشر، وما يلحقها من المهمل في الدوائر العروضية. غير أن هذا التجديد تم في إطار (إعادة تشكيل نظام التفعيلات داخل البيت)، وزيادتها بوتيرة متسقة منضبطة موسيقيًا، لكنها معقدة وغير متسقة بصريًا؛ لأنها لا تعتمد على تكرار التفعيلة في بحر أحادي التفعيلة؛ بل على (مزج) تفعيلات بحرين اثنين من البحور ثنائية التفعيلة، في الشطر الواحد.
والبحور الطويلة التي ابتكرها شعراء النبط، يطلقون عليها صفة (العسر، أو المعوسر) بمعنى العسير، وذكرنا من قبل أن عسرها ليس في طولها، فهناك ما هو أطول منها ولا يدخل في (المعوسر)، وإنما عسرها يرجع إلى إعادة توليف تفعيلاتها وتركيبها بتلك الطريقة المبتكرة. فهو طول نوعي لا كمي. وهناك بحور طويلة جدًا كـ(المثولث) و(المروبع) و(المثومن) و(المعوشر) وغيرها، لكنها لا تعد من المعوسر (الوزني) وإن كانت تعد من المعوسر (الشكلي) الذي يعتمد على تعدد القوافي (الأقفال)، وعلى إطالة الأشطر أحيانًا وتقصيرها وغير ذلك؛ لأن طولها كمي. وزيادة التفعيلات في الشعر النبطي في البحور الصافية أحادية التفعيلة مثل: المتقارب، والمتدارك (الرجد)، والهزج، والرجز، والرمل؛ من أيسر ما يكون على الشاعر، حتى لو أراد أن يجعل الشطر الواحد على عشرين تفعيلةً أو أكثر.
وسنتناول هنا مما يسمونه (المعوسر) من الأوزان (البحور)، ما نقله ابن دويرج من (المحاورة) إلى (القصائد). ومما يؤسف له أن المحاورات القديمة التي ولدت فيها هذه الأوزان غير معروفة، لأنها لم تحفظ ولم تدون. أما أقدم قصيدة (معوسرة الوزن) وصلت إلينا - فيما أعلم - فقصيدة للشاعر بديوي الوقداني رحمه الله (ت 1296هـ)، يقول مطلعها:
يا بارق لاح في القطر اليماني بات نوه يقود
دن الرعد وامطرا
مستفعلن فاعلن/ مستفعلن مستفعلن فاعلان
مستفعلن فاعلن
ويلاحظ هنا أن الشطر الأول طويل يتكون من خمس تفعيلات، والثاني قصير من تفعيلتين، وهذا نوع من التجديد في (شكل القصيدة) لا في وزنها، ليس داخلًا في موضوعنا. ولا نعرف لبديوي غير هذه القصيدة التي جاء فيها هذا (المعوسر الوزني) في شطرها الأول. ولمخلد القثامي رحمه الله (ت 1337هـ) قصيدة على هذا البحر، مطلعها:
أحب حباب سيدي واستغيظ اللي يغيظه
واللي نشدني بغيظه قلت ما عندي علومي
غير أن العروض والضرب فيها جاءا حذاوين، و(الحذذ) من العلل العروضية، وهو (حذف الوتد المجموع من آخر التفعيلة)، وهو لا يأتي في الشعر الفصيح في (فاعلن) عروضًا ولا ضربًا. وهذا من مظاهر خصوصية الشعر النبطي فيما يتعلق بـ(الزحافات والعلل). وهذا الطرق الذي عليه هذا البحر الجديد المخالف لبحور الخليل، حجازي النشأة، رائج في القرن الرابع عشر الهجري، منتشر بين شعراء الحجاز ومن خالطهم من شعراء نجد وغيرها، ونظن أنه انتقل إليهم إما عن طريق الإقامة في مكة، أو عن طريق المخالطة أو المواجهة في (المحاورات الشعرية) لا عن طريق مخالطة الشيابين وحدهم كما يرى أبو عبدالرحمن ابن عقيل في كتابه (الشعر النبطي (ص205). وفي الحجاز يسمون هذا الطرق، وإن شئت فقل: هذا الوزن أو البحر، يسمونه: (المجرور). ثم جاء الشاعر عبدالله العلي الدويرج رحمه الله (ت 1354هـ) فأولع بعموم طروق (المعوسر) ومنها هذا الطرق، حتى ارتبط في أذهان مجتمع الشعر النبطي في نجد منذ أيامه إلى اليوم، أن كل شعر طويل الوزن، مرتبط به، وأنه (دويرجي) أي طويل!
وأحصينا لابن دويرج رحمه الله أكثر من (33) نصًا طويلًا جاءت على ثلاثة أوزان طويلة عسيرة. وأهملنا من هذه الـ33 كل وزن طويل مساير للبحور الفصيحة، التي طالت بسبب زيادة تفعيلاتها، وهي النصوص التي جاءت على البحور أحادية التفعيلة، مثل (بحر الهزج) و(بحر الرمل)، وهي نصوص كثيرة نسبيًا؛ لأننا لا نعد التطويل في البحور (الصافية) ذات التفعيلة الواحدة ابتكارًا، بل نعده تكرارًا كما ذكرنا مرارًا. والتطويل في (بحر الهزج) تحديدًا كثير مبتذل عند الشعراء قديمًا وحديثًا.
وأول هذه النصوص الـ(مبتكرة) هذا الطرق (الحجازي العسير) الذي يسمى في الحجاز (المجرور). ولابن دويرج عليه أكثر من عشرين نصًا، منها محاورتان مع (الغرمول) الشخصية الوهمية التي اخترعها ليجري معها محاورات. ومنها رد واحد على ابن شريم. ومنها إجازة(9) لبيتين قالهما ابن شريم. والباقي قصائد، منها قوله:
قال الذي كن حاله من صروف الوقت عود الجريد
أسباب جملة سواميح من الأيام متابعه
مستفعلن فاعلن/ مستفعلن مستفعلن فاعلان
مستفعلن فاعلن/ مستفعلن مستفعلن فاعلن
و(السواميح): جمع ساموح، وهو ما يعوق الإنسان من مرض أو إصابة أو غير ذلك. وهذا الوزن مزيج من البحر (البسيط) والبحر (السريع) وأحيانًا من (البسيط) و(الرجز)، فأول الشطرين فيه على (البسيط) وآخرهما على (السريع). فتولد من هذا المزيج (بحر جديد) يمكن وصفه بأنه (مطور البحر البسيط)؛ لأن أوله على البسيط. وقد نظم عليه من غير شعراء الحجاز كل من ابن شريم وصقر النصافي ولويحان وغيرهم، وأكثر منه لويحان في قصائده ومحاوراته؛ لأنه كابن دويرج كان مغرمًا بكل طرق طويل عسير.
أما ما نظن أنه من (ابتكار ابن دويرج) في أوزان الشعر فـ(ثلاثة أوزان)، أحدها لا نعرف أحدًا من الشعراء نظم عليه قبل ابن دويرج، والآخران لا نعرف أحدًا منهم نظم عليهما لا قبله ولا بعده! أما الأول، وهو (دويرجي طويل) فهو الذي جاءت عليه قصيدته التي مطلعها(10):
1 - أ) آه يا من ضربني في يده كف على خدتي عسراوي
ما استحقيت به مير الموده صابر بالخطا راعيها
فاعلن فاعلاتن/ فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعل
فاعلن فاعلاتن/ فاعلاتن فاعلن فاعلاتن فاعل
وهذا الوزن - كما ترى - مزيج من البحر (الممتد) والبحر (المديد)، فأول الشطر فيه من الممتد، وآخره من المديد، فهو من مطور الممتد بالنظر إلى أوله. وقد نظم عليه ابن شريم رحمه الله (ت 1363هـ) قصيدته التي مطلعها:
يا هل الفاطر اللي فوقها من كل دشن جديد غالي
سلموا لي عليه الى لفيتوا صاحبي يا هل المامونه(11)
وعارضه ابن دويرج فيها بقصيدة مطلعها:
1 -ب) يا سلامي على اللي نيته وامناه ينقض على الفتالي
عد ما هب ذعذاع النسيم وغرهد الراعبي بلحونه(12)
والمستفيض بين الناس، عاميهم المتذوق المتابع، وخاصهم وعالمهم بالشعر والشاعرين، هو أن ابن دويرج أسبق من ابن شريم في النظم على هذا الوزن(13) وعلى غيره، وكان ابن دويرج سند عليه قصيدته التي أولها:
سلام ياللي لجدات الهوى خذها وذب سموله
ترحيبة عد ما جر القنيب الذيب بالمشرافي
متفعلن فاعلن/مستفعلن مستفعلن مستفعل
مستفعلن فاعلن/مستفعلن مستفعلن مستفعل
وهي على الطرق الحجازي الطويل العسير المسمى في الحجاز: (المجرور)، فلم يرد عليه، ربما لأنه لم يكن معتادًا على هذا الطرق قبل وصولها إليه. ولابن دويرج أيضًا على هذا الوزن أبيات مطلعها(14):
1 -جـ) كل من خط ب ت ث لقيته ينتسب للشريعه
تاه واخطاك يا راع الصنيعه وانتزعتوا من المله جميع
فاعلن فاعلاتن فاعلاتن فاعلن فاعلات
فاعلن فاعلاتن فاعلاتن فاعلن فاعلات
غير أن الأول وهو (آه يا من ضربني) عروضه وضربه تامان مقطوعان (فاعل)، وهذا مجزوءان مقصوران (فاعلات). وعلى هذا الطرق نظم لويحان رحمه الله (ت 1402هـ)، قصيدةً عروضها وضربها مجزوءان صحيحان، قال:
هاضني مرقب باديه صبح وعصر والليل جاني
ما تحدرت من ملموم راسه كود بالخرمسيه
فاعلن - فاعلاتن - فاعلاتن - فاعلن - فاعلاتن
فاعلن - فاعلاتن - فاعلاتن - فاعلن - فاعلاتن
و(الملموم) كما شرحه هو: الجبل الطويل. و(الخرمسية): الظلام الحالك. كما نظم عليه قصيدةً عروضها وضربها (تامان مرفلان)، قال(15):
هاضني مرقب عديت في عالي فروعه عصر والشمس حيه
ساقني سايق الأقدار لين الساق عدا براسه من عذابي
فاعلن - فاعلاتن - فاعلاتن - فاعلن - فاعلاتن - فاعلاتن
فاعلن - فاعلاتن - فاعلاتن - فاعلن - فاعلاتن - فاعلاتن
كما نظم عليه بعض شعراء المحاورة المتأخرين، كالمحاورة التي جرت ضمن حفلات (المغترة) في النصف الأول من الثمانينيات الميلادية، بين أحمد الناصر رحمه الله، وخلف الهذال حفظه الله وعافاه، التي وسم فيها خلف بقوله:
يا سلامي على فيصل سلام يلبسه فوق راسه لبس تاج
من هجوس تجي وتروح بالميزان سردادها مردادها
فاعلن فاعلاتن فاعلاتن فاعلن فاعلات
فاعلن فاعلاتن فاعلاتن فاعلن فاعلات
فهذه الردية جاءت على ميزان بيت ابن دويرج: (كل من خط ب ت ث)، أي أن عروضه وضربه مجزوءان مقصوران جاءا على (فاعلات).
أما الوزنان الآخران اللذان (ابتكرهما ابن دويرج) رحمه الله، ولا نعرف أحدًا نظم عليهما قبله ولا بعده(16)، فأحدهما (دويرجي قصير) وجاء في قصيدة واحدة، ولعلها الوحيدة في الشعر النبطي كله، مطلعها(17):
2 - عاش من قال طرق عسير من بغاه اخطاه
قايله من ضمير لطاروق الهوى ميزاني
فاعلن فاعلن/ فاعلاتن فاعلاتن فاع
فاعلن فاعلن/ فاعلاتن فاعلاتن فاعل
وهو مزيج من بحري (المتدارك) و(الرمل). وعندما نقول إن هذا الطرق (دويرجي قصير)، فإن القصر فيه (معياري) لا (محكي)؛ لأنه قصير في البحور الطويلة المعوسرة، طويل في غيرها، فهو على قصره أطول من بحور الخليل. أما الآخر فهو (دويرجي طويل) لكنه مختلف عن الأول، وجاء في بيتين اثنين فقط، لم ينشرا من قبل، أولهما(18):
3 - البارح البارح البارح تنوض بروقها في كل الآفاق
والليله الليله الليله سمانا من قنوف المزن صاحي
مستفعلن فاعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن فاع
مستفعلن فاعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن فا
وهذا مشابه لـ(الطرق الحجازي العسير) الذي ذكرناه في أول هذا الحديث، غير أن هذا توالت (مستفعلن) في وسطه ثلاث مرات لا مرتين، وإقحام تفعيلة زائدة وسط شطر ثنائي التفعيلة، في بيت طويل معوسر لا شك في أنه زيادة في التعسير!
أما الطروق الطويلة الأخرى التي نظم عليها ابن دويرج، ومنها ما جاءت عليه سامريته الشهيرة التي مطلعها(19):
يا هل العيرات باكر كان مريتوا طوارف خلي
خبروه إني شكيت الهم والساموح عقب فراقه
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعل
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعل
وقصيدته التي مطلعها:
ألا يا راكب اللي كنه الإدمي إلى شاف القنوص وذار/ رعت عامين بالنوار(20)
خفيفه ما عليها إلا الزهاب وخرجها وشداد فولاني/ من العيرات مقراني(21)
مفاعيلن - مفاعيلن - مفاعيلن - مفاعيلن - مفاعيلن/ مفاعيلن - مفاعيلن
مفاعيلن - مفاعيلن - مفاعيلن - مفاعيلن - مفاعيلن/ مفاعيلن - مفاعيلن
وأمثالهما، فمن (الطروق الطويلة العسيرة) لكنها ليست من (الطروق المبتكرة) التي نتحدث فيها؛ لأن طول هذه القصائد (طول تكرار)، ولا نعد التكرار من الابتكار كما ذكرنا من قبل. فالأولى من (بحر الرمل) المطول، خماسي التفعيلات في الشطر الواحد، والثانية من (بحر الهزج) سباعي التفعيلات. ونظم ابن دويرج على وزن (الرمل) المطول عددًا من القصائد. و(بحر الرمل) في الشعر الفصيح يأتي مجزوءًا أي (ثنائيًا)، كما يأتي تامًا (ثلاثيًا). أما في الشعر النبطي فيأتي مجزوءًا (ثنائيًا)، ويأتي تامًا (ثلاثيًا)، ويأتي رباعيًا، كقول ابن دويرج على لسان الغرمول في إحدى محاوراته معه:
يا سلامي عد ما جر القنيب الضاري
كل ما منه تضور في رفيع القاره
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعل
فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعل
ويأتي سداسيًا مقطعًا بقافيتين في كل شطر، كقول عبدالرحمن الربيعي يسند على ابن دويرج:
راكب اللي يوم أحلي مثل وصف الضاري/ وإن عدا بالغدرا
شايف زول الفريسه وانتحى كالسيلي/من هضاب جباله(22)
وهذا بيت واحد لا بيتان كما ظن إبراهيم الخالدي في (طواريق النبط ص78)، غير أن كل شطر منه مقطع بقافيتين. والربيعي نظمه على أسلوب ابن دويرج. و(الهزج) مثل (الرمل) جاء الشعراء المتأخرون فمطوهما وطولوا في وزنيهما بأن زادوا في تفعيلاتهما!
لقد كان ابن دويرج رحمه الله من أهم المجددين في أوزان الشعر النبطي، وهو أول من نشر البحور الطويلة المعوسرة خارج الحجاز، وهو رائد المبتكرين فيها في نجد، وزعيمهم بلا منازع. وكان السابقون من فحول الشعراء المعاصرين له، من أمثال ابن شريم وابن حصيص ولويحان رحمهم الله، وغيرهم، يعترفون له بهذا ويقرون له بالريادة والاختصاص فيها.
ونرى أن كل حديث أو بحث أو كتاب يتناول (بحور الشعر النبطي) ولا يتطرق إلى (الطروق الطويلة المعوسرة)، ولا يعرج عليها في شعر ابن دويرج وأمثاله من المجددين، إنما هو بحث قاصر، يتناول المهم ويترك الأهم. ونرى أن تجاهلها إما أنه ناتج عن جهل بقيمتها وأثرها في تجديد أوزان الشعر النبطي، أو عن عدم تقدير لأهميتها، أو عدم قدرة على دراستها ومعالجتها، أو عدم معرفة بماهية التجديد في الأوزان، أو عدم قدرة على التمييز بين الألحان والأوزان.
والإبحار في هذه البحور الطويلة يبرز خصوصية الشعر النبطي، ويفسد على شداة (علم العروض) من العامة وأشباههم تعالمهم فيه ومتاجرتهم به، كما يفوت على من يظن أن ضوابط علمي (العروض والقافية) يجب أن تطبق على الشعر النبطي بحذافيرهما، هذا الظن، ويقوض منهجه، سواء أكان الشداة أم من الباحثين!
** ** **
(1) طواريق النبط ص175 .
(2) طواريق النبط 170 .
(3) السابق ص172 .
(4) انظر: (معجم الموسيقى العربية) تأليف الدكتور حسين علي محفوظ، وزارة الثقافة والإرشاد، بغداد 1964، ص103 .
(5) (البيان والتبيين) تحقيق عبدالسلام هارون، ط4، ص 1/ 385 .
(6) الحذف: مصطلح عروضي معناه حذف (السبب الخفيف) من آخر التفعيلة.
(7) انظر: مقدمة حمد الجاسر لكتاب (روائع من الشعر النبطي) عبدالله اللويحان، ط2، 1400هـ ص17-18 . والـ(لابة) في بيتي ابن هادي هم جماعة الرجل. و(دهم الفرنجي): الأدهم في اللغة: الأسود. ومعناه عند العامة اليوم: البني الداكن، والفرنجي المصنوع في بلاد الفرنجة، وهم الأروام، جمع روم. والمقصود بـ(دهم الفرنجي): البنادق. (كتامه): قتامه، وهو غبار الحرب.
(8) عندما خرج أبو عبدالرحمن ابن عقيل قصائد ديوان ابن دويرج في تقديمه لديوان ابن دويرج الذي نشره بندر الدوخي سنة 1410هـ، وفي كتابه (الشعر النبطي: أوزان الشعر العامي) الصادر سنة 1412هـ. ذكر بحور القصائد الموزونة على بحور الخليل، وأهمل ما جاء منها على المهمل في الدوائر العروضية كـ(البحر الممتد)، كما أهمل ذكر ما جاء منها على بحور الخليل بزيادة في التفعيلات بالتكرار. أما البحور الطويلة والجديدة فذكر أوزانها بسرد تفعيلاتها دون أن يذكر بحورها، ودون أن يشير إلى أنها جاءت على بحور جديدة مبتكرة! ولعله تبع في هذا الحذر غير المبرر الدكتور غسان الحسن، وذكرنا من قبل أن توقف الدكتور الحسن مفهوم؛ لأن كتابه رسالة علمية ستخضع لمناقشة من قبل مناقشين ربما لا تكون لهم معرفة وصلة بالشعر النبطي. ثم تبعه في هذا التوقف من ألفوا كتبًا في أوزان الشعر النبطي بعده.
(9) الإجازة أن ينظم الشاعر على شعر غيره، ويكمل معناه، على نفس الوزن والقافية، كأن يأتي الشاعر بشطر بيت ويجيز غيره لإكماله، وقد تكون الإجازة بيتًا أو أكثر.
(10) (خدتي): الخدة مؤنث الخد (كلمات قضت [خ د د] 225/ 1). و(عسراوي): أي باليد اليسرى، وكانوا يعتقدون أن الضرب باليد اليسرى أقوى وأعنف من الضرب باليد اليمنى!
(11) الفاطر: الناقة المسنة. دشن: الدشن هنا بمعنى: المتاع، انظر: كلمات قضت 286/ 1 مادة (د ش ن). المامونه: المأمونة.
(12) ويقال إن ابن شريم زعل على ابن دويرج؛ لأنه كما يقول ذبح غزالته، في قوله:
ما قويت العزا والصبر يوم إنك عرضت الغزال اقبالي
ويش عذري من الله كان خليته وانا بندقي مشحونه
درت مسلوبه من فوق متني كنها شوكه السيالي
ملحها قاحل النقريز ما تخطي الضريبه وهي مضمونه
ومعنى (مسلوبه): رشيقة، ويقصد بها البندق. (شوكة السيالي): شوكة جريد النخل، فهي في شكلها تشبه البندقية. و(ملحها قاحل النقريز): أي ذخيرتها ملح البارود.
(13) روائع من الشعر النبطي، عبدالله اللويحان، ط2، 1400هـ ص94 .
(14) أخبرني بها الشاعر محمد الابن حسن، نقلا عن أبيه رحمه الله.
(15) السابق ص95 .
(16) نقول (ولا بعده) على الأغلب، لأن المهتمين الذين يحصون الطروق الجديدة (الأوزان) لم يذكروا شعرًا على هذا الوزن فيما نعلم.
(17) انظر القصيدة في مج 21 ص39، ومج 26 ص25 من مخطوطات الربيعي.
(18) ذكر لي الشاعر محمد الابن حسن، نقلا عن أبيه رحمه الله، أن ابن دويرج حضر في ليلة من الليالي إلى (نفود المزادة) المعروف في عنيزة ويقع جنوب غرب مزارع حي البرغوش، وكان فيه بعض الشعراء يلعبون، فأرادوا منهم أن يشاركهم في (المحاورات) لكنه لم يستجب، لأن مزاجه لم يكن صافيًا. ولما كان من الغد ذهب إلى نفس المكان وكان مزاجه صافيًا، وشهيته للمحاورة عالية، لكنه لم يجد أحدًا يلاعبه، فقال هذا البيت.
(19) (العيرات): الإبل القوية النشيطة، شبهت بالعير وهو الحمار الوحشي المشهور بنشاطه وقوته في السير (كلمات قضت «ع ي ر» 863/ 2. (طوارف): جمع طارفة، وهم المعارف والأصدقاء.
(20) هذا كله شطر واحد لا شطران كما يقول الدكتور سعد الصويان (الشعر النبطي ذائقة الشعب وسلطة النص) ص158.
(21) (الإدمي): وجمعها (إدامي) وهي الظباء البيض. (القنوص): القانص، الصياد. (ذار): فر مذعورًا. (الزهاب) طعام المسافر يحمله معه. و(الخرج)، بكسر الخاء: كيس من جلد، توضع فيه الأغراض. (شداد فولاني): شداد قصير، والشداد هو الكور، وهو الرحل الذي يجلس عليه الراكب فوق ظهر البعير، وهو بمنزلة السرج للفرس. مقراني: القرن ربط اثنين من الإبل بحبل قوي حتى لا يشردا، لأن كل واحد منهما يعوق الآخر، وأكثر ما يفعلون ذلك بالأفتاء الصعاب، وهي الإبل الصغيرة النشيطة التي لم تذلل. (انظر: (كلمات قضت [ق ر ن] 1017/ 2).
(22) الضاري: المتضور جوعًا من السباع، والغدرا: الليلة الظلماء التي لا قمر فيها، انتحى كالسيل: انطلق بسرعة كالسيل المنحدر.