د.م.علي بن محمد القحطاني
حدثني صديقي وهو يستعيد ذكريات أواخر أيام عيد فطر قبل أكثر من أربعين عاماً استقل الطائرة مع والده وأحد أشقائه في رحلة إلى المجهول على الأقل بالنسبة له، فهو في طريقه لمنطقة أخرى بعيداً عن مدينة طفولته وصباه وشبابه ورفاقه للمشاركة في حفل زفاف هو فيه العريس وليس أحد سواه، وتم الزواج حسب العادات والأعراف المتبعة في تلك المنطقة، وعاد في اليوم التالي بعد انتهاء مراسم الزواج والتي بدأت بالتجمع قبل صلاة الظهر في موقع قريب من دار أهل العروس، لفيف من الأجداد والأعمام والأخوال والأقارب والأرحام، وكما هو متبع في أعراف وتقاليد الزواج فقد سبقنا إليهم أفراد من الأسرة لإعداد الغداء، وبعد تناول الجميع تلك الوجبة، وبالتحديد قبل العصر كانوا في المطار لتبدأ رحلة العودة، وبينما هو يحدثني مد بصره للسماء وشخصت عيناه إلى الأفق البعيد وكأنه غادرنا إلى عالم آخر ليعيش تلك اللحظات، وكأنه لازال يستمتع باستحضار تلك السويعات في طائرة تحلق بين الأرض والسماء ومع كل جملة كانت تعابير وجه تنطق قبل لسانه في نشوة وسعادة يتخللها فترات قصيرة تلمس الأسى والحزن في عينيه، ومع نبرات صوته القادمة من بعيد أكمل قائلاً كانت رحلة غريبة الأطوار متشابكة المشاعر، واستطرد بعد صمت قائلاً في رحلة الذهاب كنت تحت جناح والدي وبمعيته أما العودة أحسست بالمسؤولية واني القائد ومع زوجتي (تحت جناحي) وبطبيعة الحال الجميع تحت مظلة الوالد - رحمه الله وأسكنه فسيح جناته -... شعور لا يوصف ومشاعر لا تتكرر...
وبدأت رحلة العمر سارت بنا طائرة الحياة بهدوء ومن المؤكد انها مرت بمطبات هوائية ولكن بعد مشيئة الله وبحسن إدارتنا لدفة القيادة تجاوزناها، وكان للعروس دور رئيسي وكبير في استمرار الرحلة بحكمتها وصبرها حتى انها استلمت دفة القيادة في عدة مراحل من رحلتنا، وهكذا استمر صديقي سابحا في عالمه الخاص ، وبعد أن أخذ نفسا عميقا ذكرني بعمق نفس ما كنت أراه في الأفلام الوثائقية عندما يهم... الغيص (الغواص) بالغوص في أعماق البحار لجمع المحار بحثا عن اللؤلؤ واستطرد قائلا ... وفي اعتقادي أن السر في ذلك كون الطائرة لحكمة أرادها الله صغيرة الحجم قد تكون أكثر عرضة وتأثرا بالرياح وشدتها ولكن يمكن السيطرة عليها بسهولة كلما كان قائدها ذا حكمة راشدة ونظره ثاقبة وخبرة عالية؛ فهي لا تتسع إلا لشخصين كل منهما لا يفكر إلا كيف يسعد نصفه الآخر بالحب الصادق ومعرفة كل منهما بما له وما عليه وما يقتضيه الحال من تضحية وايثار أو تجاوز وتغافل عن الزلات... هذه حياة الحب والصبر والاحترام المتبادل... سر بناء الأسرة السعيدة..
استطاعت هذه الطائرة أن تعبر كل هذه السنين، حلوها ومرها، قسوتها ولينها، سعادتها وشقاءها، يسرها وعسرها، شبابها ومشيبها.. أفراحها وأتراحها، واحتفظت حياتهما ببريقها ودارهما بدفئها وحنانها لتحف السعادة كل من فيها ومن حولها والتي لن تجدها إلى في قلبٌ قانع بالعَطاء.. ونفسٌ مطمئنةٌ بالقضاء..
تجربة فريدة لا تنسى مما شجعني لاغتنام حالة التجلي التي هو فيها، فسألته وبماذا ستختتم هذا البوح عن رحلتك هذه، فعاد لحالة السرحان وبدون حتى النظر إلي أو إلى كوب الشاي الذي لازال أمامه منذ أكثر من ساعة قائلا قرأت كثيرا واستمعت لخبرات الآخرين ومررت بتجارب حاولت بكل ما أوتيت من قوة ألا أخرج من تجربة حتى أقيمها وأستفيد منها..
وإليك بعض ما أتذكره ..
إن لكل مرحلة عمرية ما يناسبها قناعات وأفكار... توجهات وتصرفات قد تتغير مع الزمن ففي مرحلة من عمرك ستعرف أن الاحترام أهم من الحب... وأن الثقة أهم من الغيرة... وأن الصبر أعظم دليل على التضحية... وأن الابتعاد عن المشاكل بالصمت والتغاضي لا يعني الضعف، بل يعني أنك أكثر قدرة على الاستمتاع بحياتك، وان الحياة ليست اصطياد للعيوب بل جمال أسلوب ورقي سلوك؛ فبين كسر القلوب وكسب القلوب خيط رفيع اسمه جبر الخواطر..
وأخيراً، إن القلوب الطيبة التي مثل قلبك يا رفيق دربي كالذهبِ لا تصدأ أبدًا حتى لو أنهكها التعب، مجرد مسحها بكلمة جميلة يظهر بريقها مرة أخرى.
** **
- مستشار وخبير إدارة كوارث وأزمات