مشعل الحارثي
للألوان في حياتنا دلالات رمزية ومعان متعددة سواء كانت اجتماعية ودينية أو ثقافية وجمالية، وثبت أن للألوان تأثيراتها النفسية وذلك وفقاً لتعامل الأشخاص معها وبحسب ظروف المكان ومقتضيات الزمان، إلا أن اللون الأبيض في حياة العربي المسلم ينفرد بمزايا ومعان مختلفة خاصة في مثل هذه الأيام المباركة أيام الحج التي تتوشح فيها الأراضي المقدسة في مكة المكرمة وعرفات ومزدلفة ومنى باللون الأبيض فلا نكاد نرى تلك البقاع والمسارب المؤدية إليها إلا وهي تشع بالبياض بعد أن توافدت إليها مواكب الهداية والهداة من كل فج عميق يسوقها نداء الإيمان والفطرة السوية للفلاح والظفر بمغفرة الرحمان ورضوانه.
إليك وفود البيت، تترى جموعهم
وفاضت بهم بين الشعاب السباسب
إليك أتوا (بيض) الأزار وكلهم
تجرد من دنياه في الله راغب
ولعل هذا البياض يتجلّى أيضاً وبشكل أكثر وضوحاً في اجتماع الأمة الإسلامية يوم الحج الأكبر على صعيد عرفات الطاهر وهم في ملابس الإحرام البيضاء يتلمسون من الله بصادق الرجاء والدعوات عظيم الأجر والرحمات والفوز بالعفو والمغفرة وكريم النفحات والحسنات.
دلفوا إلى عرفات، ملء قلوبهم
نور، وكل النور، في عرفات
بملابس الإحرام وهي تجرد
(بيض) الأزار سوافح العبرات
وقفوا بهذا اليوم، وقفة خاشع
يستمطرون كرائم النفحات
واللون الأبيض هو من أحب الألوان للعرب منذ العصر الجاهلي، وتأكد تفضيلهم له في العصر الإسلامي بعدما وجدوا فيه اللون المستقل وغير المتحيز لأي جانب والأقرب لقلوبهم ونفوسهم، والأكثر انسجاماً مع طباعهم ويعكس حقيقة الدين الإسلامي وما يدعو إليه من مبادئ وقيم وفضائل سامية كالعفة والطهر ونقاء الروح والخير والعطاء وحب الجمال.
وعلى مدى الدهور والأزمان ارتبطت بعض الألوان بالديانات فاتخذت الديانة اليهودية اللون الأزرق كلون مقدس يمثّل لون الرب Jehovah)) بينما هو قليل الأهمية في الديانة المسيحية ويندر استخدامه في الطقوس الكنيسية، ولم يذكر في الكتاب المقدس ولكنه ذكر في القرآن الكريم مرة واحدة وفي الحديث النبوي ثلاث مرات، وجميعها أتت على ذكره في مجال الشيء المكروه.
وجاء اللون الأحمر في الديانات الغربية ليرمز إلى الاستشهاد في سبيل مبدأ أو دين، واتى أيضاً كرمز لجهنم في كثير من الديانات، حيث توصف بجهنم الحمراء.
أما أهل الهند والصين فيفضلون اللون الأصفر، واتخذه البراهمة والمسيحية الأوروبية لوناً مقدساً، فيما اتخذ البوذيون من اللون الأصفر الذهبي كذلك لوناً مقدساً لهم.
وللون الأبيض في الدين الإسلامي وسم ودلالة على الصلاح والاستبشار والتفاؤل تتضح معالمه في الطهر من شوائب الدنيا وأدرانها، واقترانه أيضاً بالنور والإشراق والبدايات، ويتجلّى في وجوه المؤمنين بما حصدوه من أجور وثواب نظير إيمانهم وتقواهم وصدقهم وصبرهم على أداء الطاعات والوفاء بالعهد مع الله كما يقول الحق تبارك وتعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}، وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ} ... إلخ الآية، وقوله عزَّ من قائل: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، وفي فتح مكة اختار رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم لواءه باللون الأبيض، وجاء في وصفه عليه الصلاة والسلام الملة الإسلامية. بالبياض عندما قال: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ... إلخ الحديث).
ويأتي اللون الأخضر في الدرجة الثانية مكانة وتفضيلاً لدى المسلمين لارتباطه بالخصب والنماء والحقول والأشجار والحدائق الغناء، كما ارتبط أيضاً بالنعيم والجنة في الآخرة، وورد في القرآن (8) مرات، وفي وصف ملابس المؤمنين (3) مرات، أما في الحديث النبوي فورد أكثر من ثلاثين مرة - ومن هنا جاء اختيار هذا اللون لأستار الكعبة وفي قبب المساجد وأضرحة بعض الأولياء وفي عمائم كثير من المسلمين.
وخلاصة القول إن المسلمين أقبلوا على اللون الأبيض لأن كثيراً من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أشارت ودعت وحببت إليه وجعلته في مرتبة متقدمة على سائر الألوان الأخرى، فقد ورد في القرآن الكريم ستة ألوان فقط هي: الأخضر، والأحمر، والأزرق، والأصفر، والأسود، والأبيض، وبأعداد متفاوتة، بينما ورد اللون الأبيض في القرآن (11) مرة، وفي الأحاديث النبوية ما يقارب (100) مرة.
ولا يسعنا إلا أن نقول هنيئاً لحجاج وعمّار بيت الله الحرام فوزهم بهذه الأيام العظيمة ووقوفهم على ثرى هذه البقاع المباركة وقد سمت مقاصدهم وتدثرت نفوسهم وقلوبهم بالطهر والبياض قبل أجسادهم، تقبل الله حجهم وسائر أعمالهم وطاعاتهم وأعادهم إلى ديارهم غانمين سالمين.