د.عبدالله الغذامي
مثلي مثل كثيرين لم نسمع عن أسامة المسلم الروائي الشاب الذي فجر الأخبار في معرض الكتاب في الرباط (مايو 2024) حيث تجمع عليه جيل شاب من القراء والقارئات كي يوقع لهم رواياته وجاءت الصور تكشف عن جموع هائلة، وكل يتأبط كتبا توحي من صورها أنها لهذا المؤلف القضية، وزاد الأمر لدرجة التدافع والإغماءات مما جعل الشرطة تتدخل وتطلب من الروائي الخروج كي يفضوا التجمع ويحفظوا سلامة الجموع، ولقد كان الحدث خبرا ثقافيا لافتا وأثار النقاش النقدي وفي مثل هذه الحال تحضر الحصانة المنهجية كشرط للتبصر بما حدث وأخطر شيء هو القطع بأن كل جماهيري تافهة، وتحضر مقولة (ثقافة التفاهة) واندفاع الناس خلف المشاهير، وهنا ستنتهي المنهجية في الحكم وسيختفي التبصر وقراءة الحادثة، وليس من تحصين دون ذلك إلا بالتمييز بين المصطلحات التي يعم إطلاقها وإقحام بعضها ببعض وهي (الشعبي والجماهيري والشعبوي) فالشعبوي مصطلح حديث يشير لمعنى عنصري يضمر إقصاء المخالف ويبنى على عقيدة سياسية صارمة في ذاتها ولذاتها مع رفضها القطعي لغيرها وهو اتجاه سياسي يسود في أمريكا وأوروبا ومع ثقافة العرق الأبيض تخصيصًا، بينما الجماهيري يشير للأتباع بالمعنى المطلق فإن تقول جماهير فلان فهي تعني التحزب له دون بصيرة بحيث يتحكم اسمه في انفعالات جماهيره وفي لغة خطابهم وفي ذوقهم مع الدفاع عنه حتى ولو ارتكب أبشع الأخطاء ، أما الشعبي فهو القبول العام المتحرر من شرط أي استقبال مسبق فتكون استجاباته ذاتية وشبه فطرية، والشعبي هو المقابل للنخبوي وفي مرحلتنا هذه فهو الإنسان الحديث الذي تعلم العمل مع الوسائل الحديثة وأصبح هو (المعنى التفاعلي) ومنه جاءت مقولة سقوط النخبة وبروز الشعبي. وهذا هو العنوان الفرعي لكتابي (الثقافة التلفزيونية).
ولكي نتأكد من توصيف الحال الماثلة أمامنا علينا الوقوف على الحافز المسبب للحدث وهل هو حافز تافه أم له برهان في نفسه، والنص وحده هو الحجة التي ستقرر حال المصطلح بواحد من المصطلحات الثلاثة (شعبي / شعبوي / جماهيري) ولهذا قررت قراءة أول رواية لأسامة المسلم وهي رواية (خوف) وابتدأت بها صباحي ولم تتركني حتى وصلت لنهايتها، وأول ملمح فيها أني لم أضجر منها ولم أشعر أني فقط أقوم بدوري المهني، بل استولت علي متعة النص وخفته وإغراؤه، والسؤال هنا ما المعيار الذي مصيت فيه مع النص؟ إنه مقياس لغوي أولاً وكنت قد نشرت من قبل في هذه الجريدة الموقرة مقالة عن (الفصحى المحكية) وهي فكرة طرحتها قبل ثلاثة عقود ومثالها الأول عندي هو ألف ليلة وليلة وقريبا منها كتاب (أساطير شعبية في قلب الجزيرة العربية) لعبد الكريم الجهيمان، وهما معا نصان شعبيان يعتمدان (الحكي) بلغة عربية بسيطة أقرب للغة المشافهة، لكنها تلتزم بشروط النحو وصناعة الجملة بصيغة بسيطة مع تلقائية التعبير وفطريته دون تأنق وتفصح وأسلبة متعمدة. واللغة فيهما تجري مع الخطاب بأقل حمولة من حمولات الأسلوبية والمجازية وتسير بحالة الحكي الشفاهية والتي هي في جذرها نسوية في ألف ليلة وليلة ثم تمثلها الجهيمان استلهاماً.
والخطر الذي نقع فيه مع هذه النماذج هو ما وقع فيه سلفنا حين حكموا على (ألف ليلة وليلة) بأنها لا تصلح إلا للنساء والأطفال وصغار العقول، من باب إهانة العمل وتحقيره مقابل تبجيل كتاب الأغاني وهو كتاب حكايات الفحول وقصص أشعارهم، ومن ثم رأوه يغني عن حمل ثلاثين جملاً من الكتب كما هي القصة عن ابن عباد الذي فتح باب تمجيد الكتاب مقابل تحقير ثقافة حكي النساء في ألف ليلة ليلة. وتلك أبرز قصة في التمييز بين النخبوي والشعبي رغم أن الحكاية هي لب كتاب الأغاني كما هي لب ألف ليلة وليلة، وقد نرتكب نحن لحنا ثقافيا مماثلا ونقول مثل قولهم فنقع في فخ النخبوية وتشرط المؤسسة النقدية.
على أن الفصحى المحكية هي لغة عصرية وتفاعلية وهي أيضاً لغة شابة ويافعة توسلت بالبساطة كما هي مقولة هنري ميشو (أيتها البساطة الجميلة كيف لم أكتشفك؟) ولا شك أن شعرية نزار قباني عانت في مطلعها هجوماً شرساً من شيوخ المؤسسة اللغوية ولما يزل شخص مثل أدونيس يعرض بشعرية نزار الشعبية، وهذه اللغة التي أسميها الفصحى المحكية هي ما نجده في خطاب أسامة المسلم مصحوبة بإغراء الخيال البسيط الذي يلامس العتبات الأولى للوجدان ويتسلل للتصور برخاء وتلقائية كما هي سمة خطاب شهرزاد، وكلتا الحيلتين في تلقائية اللغة وتلقائية الخيال تستحضران ما سماه ابن سينا بالغش النافع واصفا بذلك حال الكذب الشعري، وهذا ينطبق على (التخييل غير الواقعي) وهو العنصر الضروري لتقبل النص، ومع تخييل لغة أسامة فإنها قد تجنبت شعرنة اللغة وترقيص الكلمات محتذية لغة ألف ليلة وليلة وسرديتها التي نجحت مع الزمن وخلدت برهافة لغتها وتلقائية خيالها، تلك التي حاولت المؤسسة قمعها وجعلتها فقط لضعاف العقول، ولا شك عندي أن أسامة لم يتصنع ذلك ولو تصنعه لسقط في فتنة التصنع ولكنه فقط استجاب لفطرته ولشرط الوازع لديه الذي دعاه لأن يكتب.. فكتب بريئاً براءة الأطفال فاستجابت له نفوس في دواخلها طفل حي تهب نفسه لأي لعبة جديدة لم تكن تشبه ما لديه من ألعاب. ولكن هذه لعبة تخييلية تلامس تخييلات كافكا حيث تتحول الأحلام والكوابيس لتجعل الطفل عند كافكا يستيقظ ليجد نفسه شخصية سردية في بنية تتوالد مع مضي النص وتتضمن تحرير الروح من وجع الواقع. وواقعنا اليوم مستعمر بما يسمى السوشال ميديا، ولها هيمنة على البشر تجعلهم تحت سلطة اللحظة وتتولد المخاوف والقلق من كل شيء وتحتاج النفوس لتحريرها من قلقها وهذا ما تفعله اللغة حين تكون بصف الإنسان فتحرك وجدانه الحالم وتبني عليه مجتمعاً ذهنياً مختلفاً.
وهي كنص وكرواية ليست تافهة، ولو قلنا ذلك فهذا حكم ذوقي أولي وليس منهجياً، ومثل هذه الأحكام تستند للذوق الشخصي الذي يتمظهر بمظهر العارف البصير، وكذلك فهي ليست عملاً عالياً لأن العالي هو المؤسسي القار في العرف النقدي المصطلحي وما خالف مقياسه خرج عن طبقة العلو (مثلا طبقات فحول الشعراء حسب تشرطات نظرية الفحولة مما يجعل عمر بن ربيعة ليس فحلا لأنه اقتصر على الغزل وبأسلوب حكائي شفيف، ولم يدخل في النصوص المعتبرة فحوليا ولغته سلسة وحكائية وليست تفخيمية).
ولذا فسردية أسامة المسلم نص حجته في ذاته وبرهانها هو الاستجابة الحرة للنص وهي استجابة فطرية ولا تستند لنمذجة مسبقة. إنما هي أمر يقع فحسب، ثم علينا إعرابه ولكن بذهن مفتوح في قراءة المتغير وسبر دواعي هذه الذائقة الشابة التي هي حالة (للمابعد) في سمات الانسيابية والسيولة.
هي سردية تتقاطر على الورق كما تتقاطر الكلمات على لسان المتحدث التلقائي ولم يقع الكاتب في حبائل الإثارة أوتحريك الشهوة أو تحريك المخالف للسائد التي هي حيل يحتال بها طلاب الشهرة، كما لم يقع في حبائل اللغة النخبوية ولا في ترقيص اللغة الجماهيرية، هو فقط كتب نفسه بكل تلقائيتها. ورؤاه هي هواجسه التي يفعلها كل الناس حين يضعون رؤوسهم على الفراش فتهجس نفوسهم بحرية مطلقة وكل الذي فعله أسامة أنه خطف هواجس جيل شاب وكتبها لهم ليهذوا بها على الورق، فجاءت النصوص لتلامس قلوبهم وتهجس لهم بهذرهم التلقائي، وهنا تحولت نصوصه لمرايا يرى فيها القراء توهماتهم وتسلياتهم الوجدانية وخدمتها هذه اللغة الحكاءة بلفظ فصيح وجملة عربية كانها العامية اليومية، وجاء واحد مثلي بهذه السن التي أنا فيها فقرأ هذه الرواية من باب الواجب المهني ابتداء لكنه وجد نفسه تنداح مع النص دون أن يجد عنتا من القراءة وأخذتني الرواية حتى آخرها، وصدقا لقد وجدت فيها متعة ولمست فيها ظاهرة ثقافية تشير إلى ذائقة جيل شاب عبر عنها الجيل بالتزاحم والإغماءات وبذل الوقت والمال معا من أجلها، وهذا انتصار للكتابة في زمن ظننا أن الكتابة والكتاب والنص المبدع تتعرض للتهديد القدري، ولكن الكتابة تنتصر لنفسها كما انتصرت ألف ليلة وليلة لنفسها ضد تسلط المؤسسة عليها وتحررت من القمع والتحقير، وانتصار هذا النوع من الكتابة هو صيغة من صيغ تحقق مصطلح (الفصحى المحكية).
وفي النهاية فالحدث يكشف عن شهادة الجيل على لغته التي تعبر عنه وتمثل ذائقته وهي ثورة احتجاج على النص النخبوي الذي تسبب في عزوف الجيل عن القراءة حتى لتوهمنا أننا أمام موت الكتاب والكتابة. وكل ما نحتاجه الآن هو ألا نستعيد خطيئة أسلافنا حين قتلوا ألف ليلة وليلة وعلينا أن نعترف أن الكتابة تنتصر على قامعيها وتعرف كيف تعلن عن نفسها بأصدق صور التعبير وأكثرها تلقائية كما حدث لتزاحم الناس وإغماءاتهم حيث تتقطع الأنفاس لتكتب لغتها الخاصة وتدشن نصها المختلف.