د. شاهر النهاري
تستوقفنا المقولات البشرية التي صيغت فيما، وحول الزمن:
الزمن ليس سلّماً يرتقيه المرء صوب المستقبل، بل ليأخذه نحو الماضي!
الخيال وسيلة التمرد على ظروف المكان والزمان!
الزمن كالسيف إن لم تقطعه قطعك!
لم يخلق للمجد من لم يعرف قيمة الوقت!
والسؤال الآن هل الزمن موجود فعلياً؟
وجواب ذلك أنه وبمجرد النظر لتعاقب أوراق التقويم، ومتابعة دوران عقارب الساعة يثبت أن هنالك زمناً وإن لم نستطع الإمساك به.
وسؤال فلسفي يحاول حصر وتأطير جغرافية الزمان، فهل الزمن ما مضى وترك آثاره وذكرياته وتخيلاته، أو أنه وقتي أنا، أم وقت من يبتعد عني جغرافياً، أو أنه الوقت الحالي شبيه النشادر نعيشه على قمة منحدر منزلق، أو المستقبلي المتخيل غير المرئي؟
وهنا تتشعب الإجابات المتخيلة العاشقة بما ترى من وهم، وتسبح الردود الحالمة بما يزيد عليها ويتراكم كما قطرات الطل على زهور الصباح، حيث كان الوقت في البدايات يقاس بحركة القمر والشمس والكواكب، وظهور الأبراج الفلكية وانزياحها في دوراتها، والفصول وعودة السنوات، ما نظم للبشر حدوث اليوم بصبحه والضحى، وفترة الظهيرة والعصر والغروب، وانسدال ستائر الليل بجميع مراحل سواده وحتى زواله ببزوغ الشمس، فكانت التوقيتات الأرضية محاولات مدمجة غير دقيقة بالكامل، وتحتاج للتوكيد بشهادات الجموع.
ولكن البشر بعدها فتحوا الأعين والمدارك على واقع الزمن الأرضي، بنوايا التدوين والحساب وتقليص صور الظن، وبالتالي التبحر في العلوم الإنسانية القابلة للتثبت بمعارف وتحفيز نظريات حسابية وفلسفة وعلم فيزياء وفلك، والتي أثبتت وجود الوقت بأدق وأوضح صوره سواء في وجود الجاذبية الأرضية، أو بالتجرد منها صعوداً، ومعانقة الجاذبية الأعلى من الكواكب والنجوم، ومن كيانات فلكية، جعلت النظريات العديدة تتفجر، وتتواجه وتتعارك فبعضها يفشل ظهور بعض، حتى بلغت أهمها وأعقدها وأقربها للكمال ممثلة بنظرية النسبية العامة لأينشتاين، وما تراكب فوقها بعد ذلك وتفرع عنها، وما ترتب عليها مثل نظريات ميكانيكا الكم.
هل الوقت الحالي محدد معلوم ويمكن إثباته وقياسه، أم أنه مجرد وهم، أو أنه مشاعر بشرية تتشكل بالظروف المحيطة والأحوال النفسية كونه زائر يرحل بمجرد أن نفكر فيه، ويستحيل على الخاضعين له استعادته؟
كل تلك أسئلة بدائية ذكية مقلقة تواجه أغلبية البشر ممن لم يتخصصوا أو يتمرسوا أو يدركوا قوانين الحساب والجبر والهندسة والفيزياء الحديثة، فنجد الأسئلة الصعبة تستمر تباغتهم في غفلتهم، وتتفرع وتتضخم بحواراتهم الناقصة، وتشعرهم بالشك والضياع، كلما حاولوا الإبحار في علوم الفيزياء بصور منقوصة، وكلما اصطدموا بقصورهم التخيلي والعلمي غير المتراكب على أسس قوية، ما أدى في عصور عديد للجنوح لمناطق الظن في الغيبيات والميتافيزيقا والمعجزات وخوارق المفاهيم، التي يصعب، بل ويستحيل الإمساك بأطرافها وسط إهليج مشاعرهم الحالمة في خضم النقص الذاتي غير المتخصص في العلوم الفيزيائية.
البشرية ترقت بشكل خاص، ووجدت أفكارها بين كل هذا الكم من الأفكار والدراسات المثبتة والنافية، والنظريات التي تحاول قياس الزمن، وتمييزه، وتطبيق النظريات الفيزيائية عليه، بنظرية أن الزمن ليس كياناً منفرداً يتدفق باستمرار، بل جزء من نظام أكثر تعقيداً مرتبط بنظام الفضاء نفسه يدعى بالزمكان.
ولكن المعاناة البشرية تستمر في صعوبة تثبيت الزمن، ولو لثانية أو جزء منها، مهما جربنا القياس والتمعن والتبحر.
الزمن الفيزيائي ظاهرة تفكك مفاتيحها أسرار الحياة، والزمن لم يعد يقاس بالسنة واليوم والساعة والدقيقة والثانية، ولكنه بلغ دقة قدرة السيطرة على الأبعاد الحرجة المتناهية الصغر، للحصول على أصغر من كل ذلك بكثير، فسمعنا عن الديسي ثانية وهي عشر الثانية، والنانو ثانية، والفيمتوثانية، والأتوثانية، والزيبتوثانية، واليوكوثانية، وصولاً إلى بلانك تايم، وهو أصغر أجزاء الزمن المعروف لأدوات القياس الحديثة المتقدمة في التقنية، ويبلغ جزءا من (E-44 5.391) من الثانية، وهذا الرقم الكسري تعجز عن قياسه أدق الحاسبات الذرية، وبالتالي لا يمكن تعطيله أو تمديده.
الحياة بشر وحيوان وحيوية وجدت في خضم الزمن، والوقت معضلة في كل أحواله منذ التكوين وحتى الاشتداد وصولاً للتناقص اللحظي والتلاشي بعد أن تكون الطاقة قد تحولت إلى جزء آخر من تراكيب الكون، كون الطاقة لا تفنى ولا تستحدث، وقد حاول الفلاسفة ومن اهتموا بالأحياء والمستحثات، وربطوا بين الفلك والفيزياء دراسة الزمن وفك طلاسمه، فكان لكل أمة ولكل عقول دراساتها ونظرياتها ومفاهيمها، منذ بداية التاريخ، وكان أن تم إقران الزمن بالمكان والمسافة، لمحاولة تقييده، ووضع قواعد ثابتة للقياس أينما وجد الزمن، وكيفما تغيرت الأمكنة، وقد أقرن أيضاً بالسرعة والتحرك والاستقامة والميلان، فكان أن ربط بمختلف عوامل الحركة، سواء على مستوى سطح الأرض أو في حركات ما فوق الغلاف الجوي، أو حتى في أبعد مجاهل الكون، المرصودة والتي لم ترصد بعد، وكم وضعت من النظريات حيال الواقعية واللاواقعية والوجود والعدم في كينونة الوقت وملامسته للبشر، وإمكانية وضع الضوابط له، والزمن يصبح ماضياً، فلا نرى في سمائنا إلا ما قد مر من ملايين السنوات الضوئية.
وقد تعدى ذلك إلى وضع النظريات حيال الوقت المطلق، والنسبي، وتعداه إلى ما هو أبعد، وأدق، والمشكلة أن كل الدراسات مهما كانت حاضرة، تصبح من الماضي قبل انتهائها.
هذا ما يجول في عقول العلماء، وفي كل الأوقات يظل العامة، والحالمون يؤمنون بتفسيراتهم الخاصة عن الوقت والزمن، ودون وضع الضوابط الملزمة، ولا الحدود المنطقية، لمفاهيم الزمن الآني، التي تتسع وتضيق حسب الحالة النفسية، وحسب العواطف والمشاعر، والغرام أو الفقد، ما جعل الوقت بالنسبة لمعظم البشرية شبه كومة مغاط يمكن سحبها ولملمتها وتضييقها، حسب ما يحيط بهم من ظروف.
وسؤال على شكل حلم، يظل يتبادر لألباب من يحسبون سرعة حضور المستقبل وزواله، فهل يمكن استعادة الوقت؟.