د. محمد بن عويض الفايدي
«قادة المستقبل» شعار لافت لحفل جامعة جدة بتخريج الدفعة «التاسعة» من طلابها وطالباتها هذا العام يوم الإثنين 12-11-1445هـ الموافق 20-5-2024م، وفي تصور موضوعي لهذه الرمزية التي أطلقتها الجامعة شعارًا لحفلها دلالة وطنية تجعل من رمزية القيادة منهجًا ومن رمز القائد سلوكًا. المهنية القيادية والمنهجية الإدارية سلاح قادة المستقبل ومفتاح نجاحهم. معترك القيادة وتحدي الإدارة فضاء واسع ومنحدر عميق يتفاوت القادة في خوضه بين العبور والتعثر، بمقدار مستوى التعليم والتدريب والتأهيل والاستعداد الفطري، والمكتسب الذي يؤهلهم ويُكسبهم مهارات وأدوات القيادة ضمن دائرة الوعي القيادي، الذي يُعد مُحصلة تأمل وجهد ذهني كبير، تُعززه مهارات عقلية مُتجددة، وتدعمه ذاكرة حاضرة، وإرادة، وفطنة وحدس وتوقع محسوب. مع جاهزية بالتخطيط، والاستشراف للمستقبل، وتحليل المعلومات، ودقة الاختيار فيما بين البدائل، والإمداد، والتمويل، والمتابعة، والمراجعة والتقييم، والتقويم المستمر، باعتبارها مجتمعة عناصر تحفيز القيادة وتمكين القائد.
السلوك القيادي علاقة تبادلية معقَّدة وديناميكية بين القائد والأتباع الذين يؤدون أدوارًا تكاملية فيما بينهم، وفيما بينهم وبين البيئة الداخلية والخارجية لتحقيق الغايات والأهداف المنشودة، التي يتطلب تحقيقها درجة عالية من العلم والمعرفة، وبناء القدرات ورفع الكفاءة الإنتاجية بالتدريب وإكساب الخبرات والمهارات الجديدة في إطار منهج قيادي شامل يوحي وكأن القائد قد قام باستبدال نفسه بهؤلاء الآخرين الذين يمكنهم القيام بنفس الوظيفة والمهمة التي سيقوم بها بنفسه، ومن ثم تمكينهم للمساهمة بأدوار قيادية في مواقع أخرى.
فن القيادة أن يُحدد القائد بداية ما لا يجب أن يفعله وليس ما يجب عليه فعله، وبمقدار معرفة القائد للجوانب من المهمة والوظيفة التي عليه تنفيذها تمامًا ودون تفريط، والجوانب التي عليه أن يتركها للقادرين من الأتباع القيام بها ليتيح لهم المجال كي يُبرزوا مهاراتهم وقدراتهم على الابتكار والتطوير والتغيير والتحسين والإبداع. وهذه المرحلة هي نقطة الالتقاء بين النضج القيادي والإبداع القيادي الذي يستوعب الحاضر ويستلهم المستقبل. العملية القيادية تسلم بالدور الفاعل والجوهري للتقنية في توفير الوقت والجهد والمال لصناعة واتخاذ وتنفيذ القرارات ونقل التوجيهات، وفي التواصل والاتصال وتبادل المعلومات بين مختلف المستويات القيادية والعناصر الإدارية. وليس ذلك فحسب بل باستمرارية وسهولة التواصل وتبادل المعلومات في نفس اللحظة بين القادة والأتباع، مع إمكانية وصول التغذية الراجعة إلى القادة بقدر عالٍ من السرعة والانسيابية والتتابع، واحتوائها لطبيعة تنظيمية مذهلة للحجم الضخم من البيانات والمعلومات التي يمكن إعادة قراءتها بطرق مختلفة وتحليلها أيضًا ببرامج متعددة وبأساليب تراكمية متعددة ومتدرجة.
يستقبل قادة المستقبل على منصة القيادة تحديات وخصائص بيروقراطية متجذرة، قد يصعب تنحيتها من جملتها مركزية شديدة لا زالت سائدة، يصاحبها نقص في الكوادر القيادية، مع احتكار السلطة بين عدد قليل من القيادات، يسير في نسقها تراجع مؤثر في المعرفة والثقافة القيادية، وأحادية في اتخاذ القرار، وفي سياقها عدم تفويض السلطة بما يتكافأ مع المسؤولية. مع ضعف في الهياكل التنظيمية قد يحتاج ترميمه لبعض الوقت، ولم تزل الأنظمة والتعليمات والأوامر كثيرة ومتكررة، والسياسات غير راسخة. ناهيك عن أن تخصيص الموارد المالية لا زال غير متوازن. كما أن محور التوازن المعني بتوظيف واستغلال وتوجيه القوى البشرية العاملة تحدياته أكبر من حيث فرص الاختيار والتوظيف وتوزيع المناصب. مع سوء في توصيف وتصنيف الوظائف، وارتفاع معدلات دوران العمل، وتداخل الاختصاصات. كما أن قطاع التدريب يُعاني من عدم الفاعلية والشمولية. ونظم المعلومات والتقييم والتقويم والرقابة والمتابعة أوجه القصور فيها واضحة. وأيضًا التباين والتعقيد في الإجراءات قائم.
أهم العناصر ورمانة توازنها الاستشراف والتنبؤ والتخطيط الإستراتيجي غير معافى وله معاناته في عدم الدقة والقدرة على توقع الأحداث واستشفاف المستقبل، وضعف التنسيق بين الإدارات والأقسام والوحدات يُعد تحديًا فلم يزل دور التنسيق والتكامل غائبًا، إضافة إلى إفرازات الصراع التنظيمي، والتسلق الوظيفي، وممارسات التسلط وسوء الخلق والنكاية، وبث الفرقة والانقسام بين العاملين، وشيوع التكتلات غير الرسمية تحد من فاعلية القيادة. النضج القيادي ضرورة، لإدراك عملية التحول، ومواكبة التطور بما يتيح للناس تحولهم للأفضل وليس العكس على المستوى الفردي والجماعي. واعتماد فكر وأدوات تفكير وقدرات ومهارات ومناهج مواكبة للمشاركة في طرح وتقديم تعريفات جديدة لأدوار القادة ومهمة القيادة، والمسارات الوظيفية، والأجور، والحوافز، وإدارة المهام، وتقييم الأداء التي لها أن تُركز على العمل كشبكة من فرق القيادة، لإعادة تصور كياناتهم وأعمالهم وأنظمتهم وسبل تحقيق أهدافهم بمناهج راسخة تأخذ في الاعتبار توسيع دائرة الأداء، وزيادة حجم التأثير.
التحولات في تفكير وسلوك الإنسان، في مضمونها ترجمة لعقلية النمو التلقائي الذي سمح بتغيير أنماط سلوك الناس للتخلص من المعتقدات المقيدة، وتعويضها بالعاطفة العميقة المستلهمة لعوامل الدفع والتحفيز والإبداع والشراكة لإحداث مزيد من التفاعل والتسريع في الإنجاز والتميز والريادة الصامدة التي لها أن تبقى وتستمر باستشراف واعٍ لتحديات المستقبل، وتحفيز مدرك لمعطيات الحاضر دون الاستدارة التامة للخلف واستجراره. فالثقافة السائدة وأسلوب القيادة التقليدي يُعيق بناء ثقة القادة بأنفسهم، ويحول دون مواكبتهم لمستجدات القيادة، وكأنهم رهن أسلوب مغلق قياديًّا ومنطوٍ على ذاته، فالنجاح والتميز يعدي. والقادة الملهمون سياساتهم تحفيز من حولهم ببث روح القيادة والتمكين، وتفعيل الاستعدادات القيادية. القائد مصدر إلهام للآخرين وأسوة لهم بالاحتياط والتأهب. فتعزيز الثقة بالنفس والتأثير في الآخرين مهارات تُبنى وتنمو بالاستعدادات الفطرية القيادية والتأسي بالقدوة القيادية الناجحة التي تصقل مهارات قادة مواكبين للتحولات والتغيرات باستمرار، مستلهمين المستقبل بكل معطياته ومحفزاته التي تجعل من القيادة ريادة باقية ومستمرة برمز القائد ورمزية القيادة. بمحتوى معاصر يجعلها عملية تشاركية بين المستفيد والقائد لإثارة الأفكار والتفكير الإبداعي وصولًا إلى تعزيز الإمكانات الشخصية والمهنية لأقصى درجاتها، من خلال التمكين الموجه للقادة في الكيانات والهيئات والمنظمات لشحذ قدراتهم القيادية ليصبحوا أكثر كفاءة وقدرة وتأهيلًا لتأدية المهام القيادية بمهارات تراكمية تُمكن مُكتسبها من القدرة على تنظيم جهود الآخرين وتحفيزهم لبناء فريق متماسك وقوي، للعمل معهم من أجل تحقيق هدف مشترك، بإثارة حماسهم لإتمام سلسلة من الأهداف والمهام خلال فترة زمنية محددة على أكمل وجه وأفضل إنجاز.
بالعمل كفريق واحد، يساعد فيه القائد الأعضاء على تحديد نقاط قوتهم والعمل على تعزيزها، وفهم تحدياتهم والعمل على تجاوزها. وتعزيز سبل استغلال الفرص والارتقاء بالأداء من خلال التمكين عوضًا عن إلقاء اللوم والإنشغال في أثر الأخطاء، أو محاولة البحث عن الحلول بذاته، وبالتالي يصنع من خلال هذه السمات فريق عمل متكافئًا ومنتجًا يُدرك أهمية التفاعل البناء، والقدرة على ابتكار الحلول وإنجاز المهام دون الاعتماد على القائد، لتستمر صناعة القادة وتبقى ريادة القيادة. «قادة المستقبل» دمتم موفقين وعلى طريق الخير سائرين.