م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1 - إذا كان من المتفق عليه أن القراءة حياة أخرى نعيشها.. ففي كل كتاب تقرأه تضيف حياة إلى حياتك.. فكيف تكون قراءة كتاب إضافة لحياة أخرى إذا لم تملأ رئتي القارئ بحياة أخرى.. يكتب منها الكاتب نصاً تفوح منه رائحة العطر وهو يصف الزهرة.. وتبتل منه ملابس القارئ وهو يصف سقوط المطر-كما يقول (غاليانو).. من هنا تبرز أهمية الوصف في الكتابة.. فهو الذي يرسم المكان ويؤطر الزمان ويصور الأشخاص ويعرض الأحداث ويصف الأحاسيس.. فيثير الخيال ويجذب الانتباه.. فتتحول اللغة إلى جهاز عرض سينمائي ينظر القارئ من خلالها إلى تلك الحياة الأخرى.. ويتحول من قارئ للكلمات إلى متفاعل مع تلك الحياة التي تصفها تلك الكلمات.
2 - كلنا نعرف أن الرواية الحقيقية هي التي لا تقرأها بعقلك بل بجوارحك كلها.. فيتحول النص إلى وعاء مشحون بالتجربة الإنسانية.. بل إنها تنقل القارئ من مكانه إلى مكان شخوص الرواية بكل أحاسيسهم وتجاربهم وما يتعرضون له في الرواية.. فيحس بالخوف والقلق والأمل والفرح والحزن وغيرها من مشاعر تصيب أشخاص الرواية.. وهذا لا يكون إلا من خلال كتابة نص وصفي بارع.
3 - الرواية في حقيقتها هي وصف للوضع أو الحالة.. وكاتب الرواية لا يتخذ موقفاً بل يكون شاهداً يصف ما يراه.. فهو لا يحاكم شخصياته بل يتقمصها.. وهو لا يقارن بين الصواب والخطأ.. بل تكون مقارناته بين الصواب والصواب وبين الخطأ والخطأ.. وهو بذلك يحاول أن يرصد تجربة إنسانية بكل أوضاعها لا أقل ولا أكثر.
4 - القراء لا يقرأون بحثاً عن المعلومة بل بحثاً عن العاطفة كما يقول كبار الروائيين.. فالوصف هو الذي يشحن الرواية بالعاطفة العالية فتتحول القراءة إلى تجربة عاطفية.. بخلاف الكتابة السردية الخالية من الوصف التي تكون بمثابة تجربة ذهنية جافة.. بمعنى أن الرواية بلا وصف لا تصبح رواية لأنها تتحول إلى تقرير أو مرافعة تعرض في محكمة جنائية.
5 - الوصف لا يقتصر على المكان والشخصيات بل يتعداه إلى الأحاسيس.. يقول الروائي (ساباتو) إن الروايات الهامة لا تكتب بمعونة الرأس فقط فالقلب المتصل بالحواس له دور في وصف الرواية.. والوصف هنا يكون إما كتابة عن الشعور أو كتابة الشعور ذاته..
فالكتابة عن الشعور هو وصف متفرج من الخارج.. وليس من يده في النار كمن يده في الماء.. من هنا فإن الوصف البارع هو كتابة الشعور وليس الكتابة عن الشعور... أو كما طلب الروائي (غاليانو) من كاتب الرواية أنه: يجب ألا يصف المطر بل أن يجعل القارئ يتبلل.. وأن تجعله يشم رائحة الزهرة التي تفوح من الكلمات لا أن تكون تاريخاً للعطر! أو كما تقول الروائية (بثينة العيسى): الكاتب البارع هو الذي لا يكتب عن الحزن بل يكتب الحزن فيكسر قلب قارئه ويدميه.. فمن المسيء أن تكتب عن الحزن فلا يشعر معك القارئ بالتعاطف بل بالملل.
6 - الرواية كما يرى (ستيفن كنج) مجزأة إلى ثلاثة أجزاء وهي: السرد، والوصف، والحوار.. ويلجأ كاتب الرواية إلى الوصف حينما يريد أن يزيد من حجم النص أو يبطئ من سرعة السرد.. فهو يتوقف عن السرد ليصف الحدث والمحيط والأشياء والأشخاص وكل شيء له علاقة بالمكان.. ثم إذا أراد تسريع النص لجأ إلى استئناف السرد حيث الانتقال من حدث إلى آخر ومن مكان إلى آخر ومن زمن إلى آخر ومن شخصية إلى أخرى.
7 - الكاتب في حالة الوصف يسعى إلى أن يجعل قارئه يتوقف معه.. ويلقي نظرة فاحصة على المحيط.. ويستشعر الحدث.. ويملأ عينيه بصورة المكان.. ورئتيه برائحته.. وأذنيه بأصواته وصخبه أو هدوئه.. فالسرد والوصف يتكاملان في إقامة دعائم الرواية.. وأي خلل في أحدهما يؤدي إلى خلل في الرواية.
8 - يقول (كابوتي) إن الكتابة الروائية تخضع إلى قوانين الضوء والظل.. مثل الموسيقى والرسم.. فالحدث المثير في الرواية يحتاج إلى التهدئة قبل ظهوره.. والوصف خير وسيلة لتهيئة المجال لإبراز الحدث المهم في الرواية.. تماماً كما يحدث في الموسيقى حين يتطلب الأمر خفوت الإيقاع قبل الانطلاق بالنغمة إلى الطبقة العليا.. أو يحدث في عالم الرسم حيث يتم تسليط الضوء على الشخصية المحاطة بالظل.
9 - مهارة الوصف تكتسب بالممارسة.. فهي إن لم تترك انطباعاً محدداً لدى القارئ فلا جدوى منها.. ويجب أن تكون محدودة المجال ومحددة الطول.. فالإطالة في الوصف إملال للقارئ.. والإقلال من الوصف يحول الرواية إلى حكاية قصيرة شاحبة فقيرة.. البعض يقع في فخ (شهوة الوصف) كما تسميها (بثينة العيسى).. وهذا يحول الرواية إلى صف حكي.
10 - تروي الكاتبة (إيزايبل الليندي) أنها في إحدى جلسات التأمل طُلب منها أن تأكل حبة عنب في عشرين دقيقة! تقول إنها كانت تجربة لا تنسى.. فهذا البطء الشديد في أكل حبة العنب جعلها تحس بكل شيء عن حبة العنب تلك.. ملمسها، مذاقها، طعمها.. تقول: «لقد كانت ألذ حبة عنب أكلتها في حياتي»! المغزى من هذه القصة أننا نحتاج إلى تفعيل حواسنا تجاه الأشياء.. وألا نتوقع إنها فاعلة حية من تلقاء نفسها.. فحواس الإنسان المعاصر في هذا الزمن السريع ضامرة غير مدربة.. وإدراكنا لما حولنا هو إدراك سطحي ومحدود.. لذلك نرى سطح الأشياء وبشكل سريع.. وحتى يمكن رؤية العمق لا بد من التدخل لإيقاظ الحواس حتى تنتبه وتستوعب.. وهنا يأتي دور الوصف في الرواية.. وهنا تكمن أهميته.