د. غالب محمد طه
«لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا»، كلمات مودع يعرف قرب ارتحاله إلى الله قالها أفضل الخلق أجمعين لصحبه الكرام في السنة العاشرة من الهجرة في حجة الوداع - حجته الأولى والأخيرة، كلمات أثقلت قلوب الصحابة رضوان الله عليهم، ادركوا بفطرتهم السليمة أن لقاءهم بنبيهم قد يكون الأخير
تري كيف كان إحساس الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وهم يسمعون هذا الحديث؟
تلك الكلمات المؤثرة، أصبحت رمزًا لحجة الوداع، حيث ودّع النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته من الرجال والنساء الصالحين وأوصاهم - بتقوى الله. وفي ذلك اليوم، أكمل الله للمسلمين الدين وأتمم عليهم نعمته ورضي لهم الإسلام دينًا، واهتزت المدينة وارتجفت القلوب وتهاوت الأرواح لرحيل ذلك النور الرباني المنير.
رحل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الله بعد أن خُيّر بين البقاء في الدنيا ولقاء ربه، واختار قربه تعالى. ترك وراءه أسسًا شامخة لدولة إسلامية قوية، تقوم على منهجية دقيقة وكاملة، منهجية ستظل أنوارها متوهجة، محروسة بالأتقياء من المشايخ والعلماء الذين يحافظون على نقائها ويزيلون ما قد يشوبها من شائبة إلي قيام الساعة.
واليوم، يأتي المسلمون لمكة الأرض المباركة لإكمال الركن الخامس من الإسلام، يأتون من كل فج عميق، بمختلف سحناتهم وألوانهم ليجمعهم البياض، لا تفاضل بينهم سوي التقوي.
يهللون ويكبرون «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك»، بصوت واحد، يحمل الخشوع والرهبة، ويمنح النفس الراحة والاطمئنان، ونحن نتابعهم بغبطة ونستحضر تلك الأصوات القوية التي ترددت يوم بيعة العقبة، التي اشتعلت شوقًا لبيت الله الحرام، والدموع يومذاك تسيل على خدود صقلها الإسلام باليقين.
في الأيام الأولى من ذي الحجة، تتجه قلوب المسلمين وأنظارهم نحو بيت الله الحرام، مستجيبين لدعوة سيدنا إبراهيم - عليه السلام - كما أمرهم الله في قوله: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (سورة الحج: 27). وتتحرك القلوب صوب مكة المكرمة، قبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم، حيث بدأت رحلة الإيمان وانطلقت رحلة الحج، لتصبح رمزًا للتوحد والتواصل الإنساني.
الحج، الركن الخامس من أركان الإسلام، شعيرة من شعائر الله العظيمة، حيث يعود الحاج كيوم ولدته أمه إذا أدى الحج بلا رفث ولا فسوق.
أيام مباركات فضلت علي سائر أيام السنة، أيام اقسم فيها الله تعالى بها لشرفها وعظمتها، كما قال: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ}. تتضمن هذه الأيام يوم عرفة، الذي يعتبر يوم المغفرة والرحمة، ويوم يتم فيه العتق من النار، بالإضافة إلى يوم النحر، الذي يتزامن مع يوم العيد، حيث يتم تقديم الأضاحي لله وطاعة لأوامره. هذه الأيام التي يتباهى الله فيها بعباده للملائكة، هي أيام يتم فيها رفع الأعمال ويتم الاستجابة للدعاء، وتتم فيها التسبيح والتكبير والتحميد. فما أروع هذه الأيام!
الحج هو رحلة روحية تجمع المسلمين من جميع أنحاء العالم، معبرة عن التنوع الثقافي والاجتماعي الذي يميز الأمة الإسلامية. في هذه الأيام المباركة، يتحد المسلمون في العبادة والغاية، مع تعزيز الروابط بينهم وتشكيل شبكة من العلاقات التي تتجاوز الحدود الجغرافية واللغوية.
الحج يعلمنا أن جميع البشر متساوون أمام الله، حيث يتلاشى أي فرق اجتماعي أو اقتصادي. يتعلم المسلمون خلال الحج قيمة الصبر والتسامح، ويتعزز الشعور بالانتماء لأمة واحدة. يعتبر الحج أيضًا منصة لتبادل الأفكار والخبرات، حيث يتعلم المسلمون من بعضهم البعض ويتشاركون في الحلول للتحديات المشتركة.
والحج يعمق الهوية الإسلامية ويعزز الشعور بالانتماء لأمة واحدة، مع التأكيد على القيم المشتركة مثل العدل والرحمة والمساواة. من خلال هذه التجربة الروحية الفريدة، يعيد المسلمون اكتشاف جمال التنوع والوحدة في الإسلام، مع تجديد العزم على نشر السلام والتفاهم في مجتمعاتهم.
في هذه الأيام المباركة، يتجرد الحاج من زينة الدنيا ويستجيب لنداء ربه، في تجربة روحية تعيد تشكيل النفس وتزكيتها. وليس الحجاج وحدهم من يعيشون هذه الروحانية، بل كل مسلم في كل مكان، يعيش هذه الأيام بالعبادة والتقرب إلى الله، مع تجديد العهد مع خالقه.
لنستغل هذه الأيام الفاضلة، ولنملأها بالأعمال الصالحة، ولنجعلها فرصة للتغيير نحو الأفضل. ندعو الله أن يتقبل منا ومن جميع المسلمين صالح الأعمال، وأن يعيد علينا هذه الأيام باليُمن والبركات.
وإذا ذُكر الحج فلابد أن تذكر المملكة العربية السعودية ، والإشادة بدورها المتطور في خدمة الحجاج ، بدءا من الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله تعالي وصولاً لعهد الملك سلمان ابن عبد العزيز الذي خطت المملكة في عهده خطوات عملاقة في توفير أفضل الخدمات لضيوف الرحمن.
وتتجلى روحانية الحج في كل زاوية من زوايا مكة المكرمة والمدينة المنورة، حيث تبذل المملكة جهودًا جبارة لتسهيل مناسك الحج وتأمين راحة الحجاج. من توسعة الحرمين الشريفين إلى تطوير البنية التحتية، من الخدمات الصحية المتقدمة إلي تطبيق التحسينات والابتكارات المستمرة لتحسين خدمات الحج، تُعطي المملكة الأولوية لكل ما يُمكن أن يُعزز تجربة الحجاج الروحية والجسدية تعكس هذه الجهود تعكس التزام المملكة العميق بتعزيز الأخوة الإسلامية.
في هذه الأيام المباركة، تُصبح المملكة قلب العالم الإسلامي النابض، تُدير عجلة الحج بكفاءة وحكمة، مُعتنقةً رسالة السلام والتسامح التي جاء بها الإسلام. تُعلي من شأن الخدمة والتفاني، وتُظهر للعالم كيف يُمكن للإيمان أن يُوحد القلوب ويجمع الشمل.
وثمة سؤال يتردد الآن بعد كل هذه التطورات، كيف كان إحساس حجاج البيت العتيق في القرن الماضي والركب لا يقطع مشقته إلا حدات الركب؟
وستظل مكة، أرض نزول الوحي وبدء الرسالة الخالدة وإلي قيام الساعة بين تهليل وتكبير.
تقبل الله حجكم وأثابكم على سعيكم، وغفر لكم ذنوبكم وستر عيوبكم. تقبل الله دعاءكم وأجزل لكم الثواب والعطاء. نهنئ حجاج بيت الله على هذه الرحلة المباركة، وجعل حجكم مبروراً وسعيكم مشكوراً وأعادكم الله إلى أهلكم سالمين غانمين.
وأختم بأبيات الشيخ عبد الرحيم بن أحمد بن علي البرعي:
يا راحلينَ إلى منى بقيادي
هيجتُمو يومَ الرحيل فؤادي
سرتم وسار دليلكم يا وحشتي
والعيس أطربني وصوت الحادي
حرمتمُ جفني المنام لبعدكم
يا ساكنين المنحنى والوادي
فإذا وصلتُم سالمينَ فبلّغوا
منّي السلام أهيلَ ذاك الوادي
صلّى عليكَ اللَهُ يا علمَ الهدى
ما سارَ ركبٌ أو ترنَّمَ حادِ