د.شريف بن محمد الأتربي
صدر الأمر الملكي الكريم بتعيين الشيهانة بنت صالح بن عبدالله العزاز مستشاراً في الديوان الملكي، ومن ثم أصدر سمو سيدي ولي العهد قراراً بتعيينها رئيساً للهيئة الملكية الفكرية السعودية، وكالعادة عند صدور أية قرارات ملكية خاصة بالتعيينات تبدأ التساؤلات عن حياة ومؤهلات هؤلاء المعينين، ونجد مواقع التواصل الاجتماعي قد أفردت لهذه المهمة كل جهودها وكل يدلي بدلوه، حتى يصدر عن الجهات المعنية تعريفٌ رسميٌّ بالمعينين، وأهم المحطات في حياتهم، وأهم المناصب التي تولوها سابقاً، أو يتولونها حالياً.
تعودت دائماً أن أتتبع السير الذاتية للمعينين، وأتفحصها من الجانب التعليمي لأتعرف على الخلفيات العلمية والتعليمية لهم رغبة مني في استقراء المستقبل الوظيفي لهم والمبني على المزج بين التعليم والخبرات المكتسبة سابقاً، وكان من الشخصيات التي لفتت انتباهي وانتباه المجتمع كله خلال الأيام والساعات الماضية معالي الأستاذة الشيهانة العزاز، حيث أرجعتني ذاكرتي إلى ماضٍ ليس ببعيد حين حصلت على شهادة القانون لتكون أول سيدة سعودية تحصل عليها، وتكون هذه الشهادة هي البذرة الأولى لنموذج المرأة السعودية في عهد سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان.
قرأت السيرة الذاتية للأستاذة الشيهانة ولحسن حظي وقع بين يدي فيديو لها خلال عام 2017، روت فيه بين جمع من الحاضرين بكل صدق ووضوح عن حياتها، وكل العقبات التي واجهتها حتى ذلك الحين.
دقائق معدودات مرت عليّ بسرعة البرق وأنا أنصت إليها وأستمع وأستمتع بما تقول، ليس هذا فقط ولكن سردها لقصتها نقلني من مقعدي إلى زمن وأزمان متعددة ذكرتها هي على عجالة، ولكني عشتها معها وكأنها سنوات طويلة.
بدأت أستاذتي - وهذا هو اللقب الذي يليق بها - في سرد القصة من بدايتها، من وقت ومحل الميلاد في محافظة القصيم، لأحزم أمتعتي الفكرية وأطير سريعاً من مدينتي الرياض إلى حيث سكنت أستاذتي وعائلتها، ومن سردها تعرفت بوالدها - رحمه الله - ووالدتها - حفظها الله - تعرفت على حياة أهل القصيم ما بين زراعة وتجارة، وكيف لعب القدر أدوراً هامة في حياتها، لعل أولها وأبرزها الجمع بين والدها ووالدتها في منزل واحد رغم اختلاف ثقافة العيش، رأيتها تلعب وتلهو داخل جدران منزلها، ومن ثم تحمل حقيبتها إلى مدرستها كأي طفلة في عمرها جل حلمها أن تنال قسطاً من التعليم في ظل البيئة شديدة الحرص والإغلاق على الفتيات، رأيتها تلعب مع إخوانها الصغار وتقودهم في حياتهم، ولما لا وهي أول العنقود، وكبيرة هذه الأسرة الجديدة.
فجأة وجدت نفسي أحمل أمتعتي وأركب الطائرة محلقاً معها ومع أسرتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث زرنا ديزني لاند، وتمشينا في كالفورنيا، ونيويورك، سعدنا بكل هذه اللحظات الجميلة كعائلة واحدة، وفجأة أدارت الدنيا وجهها وتكررت الرحلة بالمرض المفاجئ الذي أصاب والدها، بكيت بكاءً شديداً لمرضه وتذكرت مرض والدي وأنا في ذات حقبتها العمرية، وبعد صراع ليس بطويل مع المرض خرجت الروح إلى بارئها لتجد الشيهانة نفسها ولأول مرة في تصادم مع مجتمعها الضيق في أسرة والدها، ومجتمعها الأرحب والمتمثل في العادات والتقاليد التي تفرض على الإناث بعد وفاة الرجل المعيل.
صدمة ما بعدها صدمة، فقد السند، فقد الأب خط الدفاع الأول ضد الزمن وتقلباته، الوتد الذي بدونه تهتز جدران المنزل، وقد كان. بكيت بكاءً مريراً وأنا أراها عاجزة عن أخذ أبسط حقوقها في مناقشة ميراث والدها، ووقوفها خارج جدران المحاكم لكونها أنثى، وبكيت أكثر أني حرمت لقاء المرحوم بإذن الله والدها لأشكره على هديته ليس للوطن فقط، ولكن للعالم كله، على أستاذتي الشيهانة حفظها الله.
تغلق الشيهانة هذه الصفحة برسم صورة لما كانت تعانيه المرأة في السعودية وكيف كان ينظر إليها قبل العهد السليماني المحمدي، تعذبت على أبواب المحاكم وصرخت بأعلى صوتي: أيها القانون لا تكن قاسياً عليّ فيكفيني ما ألم بي من حزن بوفاة والدي، فلا تكن أنت أيضاً سبباً لظلمي وضري.
تخرجت الشيهانة من المرحلة الثانوية وأرادت أن تدرس القانون لتأتي اللطمة الزمنية الثانية، لا يحق لك دراسة القانون، لماذا؟ لأنك أنثى. صدمة كانت يمكن أن تقتل أحلامها وينتهي بها المطاف خريجة لأي كلية نظرية، ولكن الأم تتدخل وتفتح نافذة الأمل من جديد بقرار الدراسة خارج المملكة، في المملكة المتحدة.
حملت أستاذتي شنطتها بيديها، وعلماً تعلمته في مدارسنا السعودية، ولغة إنجليزية درستها من على مقاعد الفصول الدراسية، لتأتي الصدمة الجديدة، صدمة اللا علم، نعم لا علم، كل ما تعلمته خلال 12 عاماً دراسياً لم يشفع لها لتبدأ رحلتها التعليمية الجديدة في شمال شرق إنجلترا، فهناك اكتشفت أنها تعلمت أن تكون مدونة للمعرفة وليست مفكرة، نظام أقل ما يوصف به: أحفظ تنجح، لم تتعود على التفكير الناقد، ولا العمل بالمشروع، ولا العمل التعاوني، فقط التلقين والحفظ، فبينما يسير الطلبة الآخرون بسرعة 3000 ميل تظل هي جالسة مع مترجمها الإلكتروني تفسر الكلمات التي تتلقاها من معلميها لتنفيذ الأعمال والتكليفات المطلوبة منها.
في شمال إنجلترا كانت بداية قصة نجاح أنثى سعودية واجهت تحديات القدر والقرية والعادات والتقاليد، وغربة الذات والثقافات، الإحساس بالضعف العلمي والمعرفي، ورغم الرسوب في البدايات كان حرف F الذي يشير للرسوب في معناه الأكاديمي، ولكنه بالنسبة لشيهانتنا بداية القصة وليس نهايتها، فبفضل الله تعالى ثم وجود أم داعمة تعرف قدرات ابنتها، لم تنعتها ككثير من الأمهات بالفاشلة، ولكنها شجعتها على المضي قدماً في تحقيق أحلامها وأحلامنا جميعاً، لتكون الشيهانة أول سعودية تحصل على شهادة القانون من إنجلترا بعدما حرمت منها في ديارنا.
عادت الأستاذة الشيهانة للسعودية وهي تحمل مع شهادتها آمالاً كبيرة في مزاولة مهنة المحاماة، ولكنها تصطدم بمجتمع ينكر عليها حمل مثل هذه الشهادة ويقصرها على ذكوره دون إناثه، لنحمل أمتعتنا مرة أخرى إلى نيويورك للعمل هناك، ولكن كانت العقبة الأولى رخصة مزاولة المهنة، وبعد دراسة مضنية وجهود جبارة وبوجود أم لا تعرف للمستحيل سبيلاً؛ حصلت أستاذتي على الرخصة وأصبحت أيضاً أول سعودية تحصل على رخصة مزاولة مهنة المحاماة من الولايات المتحدة الأمريكية، وتتصدر صورها صفحات الجرائد، لتنتقل وتنقل معها كل نساء السعودية إلى آفاق أرحب وأوسع.
كان الاختيار بين العودة للديار أو استكمال المشوار، واحداً من القرارات الصعبة التي يجب على الشيهانة اختياره، فكانت العودة للوطن وبدء مرحلة جديدة من مراحل الحياة المتعاقبة على أرضه وبين أهله، فهي ترى أن الهجرة للطيور وليست للبشر.
في السعودية كانت التحديات تأتي واحدة تلو الأخرى، وكلما زاد التحدي زاد الإصرار على تجاوزه، فهي تقول إنها أعدت نفسها على تجاوز كل التحديات والفشل منذ قررت أن تدرس القانون.
بدأت الرحلة الجديدة من خلال مكتب محاماة سعودي عرض عليها أن تمارس عملاً اعتادت أن تمارسه خلف الأبواب المغلقة لمدة 4 سنوات، استطاعت بلطف أن تدفع الحدود وتفكك القيود التي كانت مفروضة عليهن آنذاك.
رفعت شيهانتنا عريضة للمقام السامي تطلب فيها السماح للنساء بدراسة القانون، وقد كان، لم تكتف بنجاحها الفردي، بل حرصت على أن يكون نجاحها نجاحاً لكل بنات جنسها، فعملت على تهيئتهن لسوق العمل، وتدريبهن على خوض غمار التحديات بإصرار وعزيمة اكتسبنها من قادتنا حفظهم الله.
وخلال عملها مع واحد من أكبر مكاتب الاستشارات في العالم، تحكي أستاذتي أنها شعرت بالوصول لمنطقة الراحة وهي منطقة مخيفة بالنسبة لها، حيث إنها - حسب أخصائي الطب النفسي - منطقة وهمية، تستخدم مجازاً للدلالة على حالة نفسية يعيشها الفرد، بحيث يشعر بالسعادة وبراحة كبيرة وطمأنينة غامرة ورضى عن نفسه، وحالته، ومعلوماته، ومهاراته وحتى عن الأشخاص الذين يتعامل معهم والمكان الذي يوجد فيه، حيث إنها جميعها ثابتة، ولا يوجد فيها أي جديد أو متغير.
تحكي أستاذتي الشيهانة أنها خلال عملها مع واحد من أشهر مكاتب المحاماة في العالم وجدت نفسها في منطقة الراحة Comfort zone، وهي منطقة وهمية تستخدم مجازاً للدلالة على حالة نفسية يعيشها الفرد بحيث يشعر بالسعادة وبراحة كبيرة وطمأنينة غامرة ورضى عن نفسه وحالته ومعلوماته ومهاراته، وحتى عن الأشخاص الذين يتعامل معهم، وهنا كان قرار الخروج من هذه المنطقة الوهمية فهي منطقة لا تصلح للمتطلعين، ولا الطامحين لتحقيق الذات والإنجازات.
تلقت أستاذتي عرضاً للعمل مع مكتب من المكاتب الاستشارية التي لم تتواجد في المملكة من قبل، فكان القرار بالخروج سريعاً من منطقة الراحة، وبدء مغامرة جديدة، ورغم توالي العروض عليها من مكاتب أخرى سبق وأن أوصدت أبوابها أمامها بداعي العادات والتقاليد، إلا أن طموحها الذي يفوق عنان الخيال دعاها لقبول العرض المقدم من المكتب الجديد، لتتوالى النجاحات التي - ولله الحمد- ألفت الوصول إليها وتحقيقها، خاصة وأن عرض العمل شملته كلمات محفزات نادراً ما نجدها في بيئتنا الاستقطابية للعمل، مثل: تعال وحدد نفسك كقائد ورائد في مكتبنا. ومع هذا التحدي الجديد وخلال خمس سنوات فقط، استطاعت الشيهانة وزملاؤها في العمل أن يجعلوا من المكتب الاستشاري واحداً من أكبر المكاتب ليس في السعودية فقط ولكن في الشرق الأوسط.
وتتكرر منطقة الراحة مرة أخرى، ليأتي الاتصال الحكومي: نحتاجك معنا. اتصالاً لم يتأخر كثيراً فالنجوم تلمع مبكراً، وشيهانتنا نجمة كانت تحتاج فقط وقتاً قصيراً ليكون توهجها ملفتاً للأنظار، وكان القرار بالتحول من حرية القطاع الخاص، إلى القيود الحكومية، ولكن سرعة التغير التي حدثت في الدولة تحت قيادتنا الشابة الواعدة المتمثلة في سمو سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان- حفظه الله- جعلت قرار الانتقال لهذا القطاع سريعاً جداً.
جاء برنامج التحول الوطني والذي أعلن عنه سمو ولي العهد ليفتح الباب على مصراعيه أمام كل نساء المملكة، وتصبح الوظائف ليست حكراً على الرجال فقط، والمهم أنه تم تأنيث الكثير من الوظائف التي تخص النساء وكان يحتكرها الرجال سابقاً، وأصبحنا نشاهدهن في كل المجالات الاجتماعية والرياضية والصناعية، بل إنهن شاركن في المسابقات الأولمبية أيضاً.
وتستمر النجاحات متوالية لترتقي الشيهانة من مديرة الصفقات التجارية بإدارة الشؤون القانونية في صندوق الاستثمارات العامة، إلى المستشارة القانونية والمهنية العامة لمجلس إدارة الصندوق، وأخيراً (نائبًا للأمين العام لمجلس الوزراء) بالمرتبة الممتازة. ويصدر أمر صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز رئيس مجلس الوزراء -حفظه الله- بتعيين معالي الأستاذة/ الشيهانة بنت صالح بن عبدالله العزاز المستشار بالديوان الملكي رئيساً لمجلس إدارة الهيئة السعودية للملكية الفكرية لتثبت أستاذتي الشيهانة أن النجاح لا حد له، وأن بنت السعودية إذا أرادت فعلت، وأنها لا تقل بأي حال من الأحوال عن رجال هذا البلد في حمل المسؤولية وتحقيق آمال أبناء الوطن في غد أفضل.
شكراً شيهانتنا، وكل الشكر للأم الكريمة التي لم تقف في يوم من الأيام حجر عثرة أمام طموح الشيهانة، بل كانت هي صاحبة كل سلالم الارتقاء التي صعدتها بكل ثقة وشموخ.