د. عبدالحق عزوزي
نتذكر في عهد الرئيس أوباما، وفي سابقة من نوعها، أن القضاء الأميركي بادر بمحاكمة خمسة جنود صينيين بسبب القرصنة الإلكترونية والتجسس الاقتصادي وما تخللهما من استعمال أساليب دقيقة ومعدات حديثة لم تعهدها البشرية من قبل... والجنود كما جاء في بعض التقارير الاستراتيجية الأميركية هم أعضاء في وحدة مسماة «الوحدة 61398 للجهاز الثالث لجيش التحرير الوطني». وهؤلاء الجنود الخمسة اتهموا بأنهم من سنة 2006 إلى سنة 2014 تولوا سرقة أسرار تجارية لشركات أميركية عملاقة تعمل في مجال الطاقة النووية والمتجددة وغيرها، كما أن الخروج العلني لكبار المسؤولين الأميركيين وتدخل القضاء الأميركي هو دليل على التذمر الكبير والخطر الواضح لحرب جديدة لم تعهدها البشرية من قبل وخاصة إذا كانت تشرف عليها أجهزة دولة بعينها.
والتجسس مسألة قديمة قدم الدبلوماسية الكلاسيكية، ولكن هذه المرة تستعمل شبكات التجسس أدوات وتقنيات حديثة يصعب احتواؤها، وتقع في مواطن لا تخطر على بال أحد... فوجود الوحدة 61398 كان من اكتشاف الشركة الأميركية للأمن «مانديانت» Mandiant الذراع الاستشارية للحكومة الأميركية، التي استطاعت بعد مجهود مضن اكتشاف تواجد الوحدة في شنجهاي في مبنى من اثني عشر طابقاً، ويعمل فيه الآلاف من الجواسيس والخبراء المدربين... وأوضحت شركة «مانديانت» أن الاقتصاد الأميركي يفقد ما بين 24 ملياراً و120 مليار دولار سنوياً بسبب القرصنة الإلكترونية الصينية.
وهذا لا يعني أن الولايات المتحدة هي هنا بمثابة الضحية، فلها هي أيضاً من القوة التقنية والملَكة والسبق العنكبوتيين ما يمكنها من التجسس على العالم بصمت ودراية مستعملة أماكن يصعب التنبؤ بها، وقد كشف عن بعضها عميل المخابرات الأميركي الهارب أدوارد سنودن؛ إذ تنصتت أميركا شهرياً على سبعين مليون مكالمة في فرنسا وستين مليون مكالمة في إسبانيا مستعملة السفارة البريطانية في ألمانيا، مع العلم بأن للولايات المتحدة سفارة في ألمانيا... ودائما ما يحذر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أن روسيا ستواصل محاولة زعزعة استقرار «الديمقراطيات الغربية عن طريق التلاعب بشبكات التواصل الاجتماعي أو عمليات معلوماتية. مضيفا بأنها ستفعل ذلك «إما عبر أطراف فاعلة خاصة أو عبر خدمات مباشرة، أو عبر «وكلاء». متابعا بأنها «ستكون طرفا فاعلا عدوانيا للغاية في هذا المجال خلال الأشهر والأعوام القادمة وفي جميع الانتخابات، ستبحث عن وضع استراتيجيات تمكنها من الحصول على وكلاء لها». ولاحظ ماكرون أن روسيا لم تكن الوحيدة في عمليات التلاعب هذه، إذ «تدخل فاعلون محافظون من اليمين الأمريكي المتطرف في الانتخابات الأوروبية».
يوحي لنا كلام الرئيس الفرنسي، أن البيئة الدولية المعاصرة أضحت أكثر ضبابية وأكثر تعقيدا وأكثر غموضا من أي وقت مضى؛ ويكفي الرجوع إلى الكتاب القيم الذي ألفه منظر العلاقات الدولية وصاحب الكتابات المعتمدة الفرنسي برتران بادي Bertrand Badie لتمثل ذلك؛ إذ طور نظرية اختزلها في كلمتين «وهن القوة» واعتمادا على نظريات لإيميل دركاييم وهيغو كروتيوس أكد بأن القوة بمفهومها التقليدي الكلاسيكي فقدت أكثر من معنى مع ازدياد الفاعلين في البيئة الدولية المعقدة... فلم تعد بعض الدول القوية كالولايات المتحدة الأمريكية تتوفر على نفس الردع الاقتصادي والعسكري والحمائي، بل وحتى الثقافي كما كانت عندها في السابق، ولم يعد للثنائية القطبية أو الأحادية القطبية نفس المدلول مع صعود اقتصاديات الدول الآسيوية واتساع رقعة الأزمة المالية العالمية والتنافس التجاري العالمي، وتنامي الإجرام العالمي وعولمة الخدمات وتنامي دور الأفراد في العلاقات الدولية.
وتظهر روسيا في ظل هاته البيئة الدولية المعقدة على شكل قوة تثق في نفسها وتستعمل أسلحة ذكية لم تعهدها العلاقات الدولية من قبل، وتؤثر بدرجة كبيرة في مسار العمليات السياسية في أقوى الدول الديمقراطية؛ فالاستراتيجيون الروس يعون جيدا مفهوم البيئة الاستراتيجية التي يُشار إليها في منشورات وثقافة كلية الحرب الأميركية على أنها «نظام عالمي حافل بتهديدات كثيرة ومثيرة للشكوك، والصراع متأصل فيه وغير قابل للتنبؤ. وفي هذا العالم تكون قدراتنا للدفاع عن مصالحنا الوطنية وتعزيزها مقيدة بقيود مرتبطة بحجم الموارد المادية والبشرية. وباختصار، هذه البيئة تتسم بالتقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض». ودور الاستراتيجي هنا هو ممارسة النفوذ للسيطرة على التقلب، وإدارة الهواجس، وتبسيط التعقيدات، وكشف الغموض.