د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
قال مشعان بن هذّال:
وهلّتِ ادموعَ العين من شوفها الدار
سكانها الَاجناب هم والبقاقير
البقاقير جمع (بَقَّار)، قال الأصمعي «البَقّار: صَاحب البَقَر»(1). وليس بقّار اسم فاعل للمبالغة من الفعل (بَقَرَ)؛ بل هو مشتق من اسم ذات هو (بقر) كما اشتقوا من الجمل (جمّال) ومن حمار (حمّار)، ومن التمر (تمّار)، ويعد النحويون ذلك من النسبة. والبقر اسم جنس جمعيّ واحده (بقرة)، ينطلق على الأنثى والذكر، فإن أريد الذكر خاصة قيل (ثور)، وجمع بقرة (بقرات)، أما أبقار فجمع (بقر).
عشت في بيئة ريفية كان اعتماد الفلاحين منهم على الأبقار في شؤون كثيرة منها السواني، وهي ما تسحب رشاء الغرب من البئر وسريحه(2)، ومنها دوس سنابل القمح الحصيد، وهم أيضًا يحلبونها فيشربون حليبها ويمخضونه ليفصلوا زبدته عن لبنه، وأما أكلها فقليل في بيئات نجد، حدثني والدي أنهم يعتقدون أن لحوم الأبقار يمعدهم، وأنهم لا يأكلونه إلّا في الشتاء القارس البرد فيكون أسلم لهم. ولعلهم بذلك متأثرين بقوله تعالى «إنَّ ألبانَها - أو لَبَنَها - شِفاءٌ، وسَمنَها دَواءٌ، ولَحمَها - أو لُحومَها - داءٌ»(3).
والفلاحون وغيرهم من سكان الأرياف لا يكاد بيت أحدهم يخلو من بقرة؛ لأنها من أهم مقومات حياتهم، بل إن منهم من احتملوا أبقارهم معهم حين هاجروا إلى المدن، فأذكر أن بعض أهل نجد الذين سكنوا في حي الصالحية في مدينة الرياض في بيوت ليس فيها أحواش احتالوا على إدخال البقرة برفعها على سطح المنزل برافعة.
ولأهمية البقر في حياة الناس جاءت أمثالهم معبرة عن ذلك، إذ يحكى أن البقرة غارت من اهتمام الناس بالخيل وإطعامها والعناية بنظافتها فتظلمت أمام أربابها، فحاولوا أن يبينوا لها أن الخيل تتسابق وتقطع أشواطًا بسرعة، فزعمت البقرة أنها تستطيع ذلك.
جاء نهار السباق فقالوا للبقرة (مع الخيل يا شقرا) أي قفي مع الخيل لتجري جريها، فمضت وهي تقول (محّم)، أي معْهم، وهذا من المماثلة التبادلية إذ أثرت الهاء المهموسة في العين فحولتها لنظيرها المهموس وهو الحاء، وحولت الحاء الهاء إلى مخرجها فصارت حاءً فأدغمتا، قال سيبويه «ومما قالت العرب تصديقًا لهذا في الإدغام قول بني تميم: محُّم، يريدون: معْهُم»(4).
وذهب القول (مع الخيل يا شقرا) مثلًا بين الناس يضربونه لمن يفعل الأمر لا عن قناعة بل مجاراة لغيره وتقليدًا له من غير وعي، وهو ما يتصف به كثير من الناس، وإن يكن في اللغة ما يسمى خطأ شائعًا فإن في السلوك الاجتماعي ما هو خطأ شائع أيضًا.
جرت البقرة ما شاء الله لها أن تجري؛ ولكن خارت قواها ولم تكمل الشوط كما تفعل الخيل، فضرب الناس المثل بشوطها هذا، فقالوا «شوط بقرة». وصار يضرب مثلًا لكل من يبدأ أمرًا ثم لا يكمله.
والبقر من أشد الحيوان خضوعًا وخنوعًا؛ قالوا (ما يصبر على الجور إلا ثور)، فنالت البقر من الإنسان على الرغم من منفعتها احتقاره، وصارت مضرب المثل في الغفلة والغباء (ثور الله في برسيمه)، وربما توصف المرأة بأنها بقرة والرجل بأنه ثور؛ لبيان ما هما عليه من خرق، ورعونة، قالوا (غبر يا ثور وعلى قرنك)، والبقرة ميالة إلى البلادة قالوا (إذا عاونت البقره ربضت)، وهي مع ذلك لها مماثل (البقرة الخثاقة تلقى لها رفاقة)، وهي لا تحسن إخفاء حالها (شف وجه البقرة واحلب لبن)، ولكل ذلك ربما كان في نسبة البقّار والبقاقير شيء من الوصف بالهوان، ومثله الحمّار بل ذلك أشد، ولذا قالوا (من قال لك يابا البقر قل له يابا الحمير)، ولهذا المثل أكثر من دلالة يظهرها السياق المستعملة فيه.
**__**__**__**__**__**
(1) جمهرة اللغة لابن دريد، 3/ 1322.
(2) الرشاء حبل من الليف أو الصوف أو ما يماثلهما قوة يرفع جانبًا من الغرب والسريح حبل من قديد جلد البعير يرفع فوهة الغرب.
(3) السنن الكبرى للبيهقي تحقيق: التركي، 19/ 529.
(4) الكتاب لسيبويه، 4/ 450.