أ.د. محمد خير محمود البقاعي
خرجت من البيت مبكراً وقد دوّنت على ورقة محطات (المترو) التي أصل عبرها إلى الشانزليزيه واستغرق الوصول بعض الوقت وما إن خرجت إلى الهواء الطلق حتى بدا لي في رأس شارع الشانزليزيه Champs-Elysées, قوس النصر Arc de Triomphe منتصباً في ساحة شارل ديغول، يلتمع تحت أشعة الشمس التي لم تتوهج بعد، وهو ملتقى 12 طريقاً (بدأ العمل في قوس النصر في بداية القرن التاسع عشر، وأراده نابليون بونابرت رمزاً يخلد انتصارات الجيوش الإمبراطورية. إلا أن إنجازه الفعلي تم عام 1836 زمن لويس فيليب الأول).
لم أكن أملك آلة تصوير لتخليد لحظات الانبهار بالقوس وبالشارع الذي تحف به الأشجار على الطرفين وتنتشر فيه المقاهي ودور السينما والمطاعم ومحلات الأزياء وفي مقاهيه يلتقي المثقفون وتحتدم النقاشات.
اخترت مقهى في وسط الشارع وكانت جلسات الرصيف مغرية في الهواء الطلق فجلست على طاولة صغيرة كأنها أعدت لشخص واحد وسرعان ما جاءني النادل مبتسما أنيقا تنبعث منه رائحة عطر خفيف فطلبت فنجان قهوة بالحليب كبير مع كروسانة كبيرة وقارورة مياه متوسطة الحجم. لم يمض إلا وقت قصير حتى رأيت النادل منتصبا أمام الطاولة وبدأ بوضع ما طلبت على طاولتي وناولني الفاتورة وغادر على وجه السرعة لخدمة زبون آخر. قارب النهار على منتصفه ودفعت ثمن ما طلبته وغادرت المقهى، وذرعت الشانزليزيه ذهاباً وكان من يراني يعلم أنني عابر سبيل لأنني كنت أقف أمام التفاصيل التي يمر أهل البلاد أمامها مسرعين بحكم العادة.
عدت إلى محطة (المترو) التي كنت وصلت إليها وقررت العودة إلى السكن واشتريت من محل قريب إلى السكن بعض ما أصنع به طعام الغداء متأخراً. وصلت السكن وبعد استراحة قصيرة جهزت طعامي، وما إن انتهيت حتى شعرت ببعض الحاجة للراحة. فغفوت بعض الوقت وصحوت وقد قاربت الشمس على المغيب فقررت أن أقضي ما تبقى من نهاري وبعض ليلي في جوار برج إيفل، حيث الخضرة والماء وجموع السياح يلتفون حول كوميديين وأصحاب ألعاب الخفة وعازفي بعض الآلات الموسيقية والممثلين الذين يقدمون لوحات تمثيلية تنتقد بعض السلوكيات. مر الوقت وانتصف الليل سريعاً وعدت إلى سكني سيراً على الأقدام وأنا أفكر في قصر فرساي الذي قررت زيارته في الغد. سرعان ما وصلت وصعدت الدرج وما إن دلفت إلى الداخل وارتحت قليلاً حتى بدأت أتبين طريق الذهاب إلى فرساي التي تبعد 25 كيلومتراً عن غرب وسط مدينة باريس.
وبعد أن تفحصت المحطات إلى قصر فرساي Château de Versailles خلدت إلى النوم سريعاً بعد أن شربت كأساً من الحليب الساخن.
صحوت متأخراً بعض التأخير فصنعت قهوتي واحتسيتها مسرعاً وارتديت ملابسي وخرجت متجهاً إلى قصر فرساي وفي ذهني تاريخ من الأحداث التي شهدها القصر الذي كان مقر إقامة ملوك فرنسا لويس الرابع عشر Louis XIV، ولويس الخامس عشر Louis XV، ولويس السادس عشر Louis XVI. وكان موقع فرساي قبل ذلك مقرًا لكنيسة وقرية صغيرة. فقد زار هنري الرابع ملك فرنسا المنطقة عام 1589 وبعد ذلك زارها عدة مرات للصيد في الأراضي الغنية بالأنشطة الترفيهية في المنطقة. استمتع ابنه بالصيد كثيرًا هناك، وبنى لنفسه في عام 1624م كوخ صيد عندما أصبح ملكًا، ثم بنيت ساحة الرخام مكان ذلك الكوخ الأصلي الذي بدأ ببنائه الملك لويس الثالث عشر.
وارتبط اسم القصر الذي اكتمل بناؤه بين عامي 1623-1682م بالملكة ماري أنطوانيت Marie
Antoinette 1755- 1793م زوجة لويس السادس عشر ملك فرنسا وأم الأمير الصغير لويس السابع عشر.
وهى التي تنسب إليها المقولة المشهورة «إذا لم يكن هناك خبزٌ للفقراء، دعهم يأكلون كعكاً» رغم أنه لا يوجد دليل على ذلك وأن الذي ذكر هذه العبارة هو جان جاك روسو في كتابه «الاعتراف» ولم يذكر اسم قائله.
تتلمس في كل ركن من القصر وفي حدائقه وبحيرته ومسارحه وغرفاته روعة الفن الفرنسي. لقد كان اليوم الذي قضيته هناك حافلاً بكل أنواع المعارف والمتع البصرية التي تفسح المجال لخصوبة الخيال. ولما حلَّ المساء غادرت القصر جائعاً متعباً سرقني النوم بعض الوقت في (المترو) وفاتتني المحطة التي ينبغي النزول فيها والانتقال إلى مسار آخر للوصول إلى السكن. ولما استفقت تنبهت فنزلت في أول محطة، وسلكت المسار المعاكس إلى حيث ينبغي النزول والانتقال. وصلت إلى البيت وانتظرت أمام المدخل بعض الوقت لأستعيد بعض القوى لصعود الدرج وبعد مدة لم تطل صعدت وفتحت الباب وألقيت نفسي على السرير أغالب النوم فغلبني ولم أستفق إلا صباح اليوم التالي، ولم أغادر السرير إلا بعد وقت من استيقاظي وقد عضني الجوع فوليت وجهي شطر الثلاجة، وفرحت برؤية البيض والطماطم وأنا أعلم بوجود بعض البصل في ركن من المطبخ فسارعت إلى الأكلة التي اعتدت على إعدادها منذ أيام الجامعة في دمشق وأعنى ما تسميه العامة في سورية (جظ-مظ) وما نسميه في المملكة (شكشوكة). وبعد حين كان الطعام جاهزاً والماء الساخن للشاي والبارد للشرب جاهزين أيضاً. وبعد الطعام واحتساء الشاي خطر ببالي أن أقضي اليوم مرتاحاً، ثم أخرج عند المساء إلى جوار برج إيفل وهو المكان المتجدد الذي لا يمل زائره. عدت للاستلقاء على المرتبة وأدرت مشغل التلفاز مسترخياً فأدركني النوم ثانية ولم أستيقظ إلا وقد بدأ المساء يلقي أستاره، وكان لا بد من القهوة والاستعداد للخروج. قضيت الأمسية وسط فعاليات سبق وصفها وأنا أرى الناس في حزمة ذهاب وإياب من أجناس مختلفة جعلت الساحة تبدو كمحطة من محطات برج بابل في تنوع اللغات واختلاف الأشكال والألوان. جلست على مقعد وأنا أفكر في اليوم التالي الذي سأدور فيه متحف اللوفر Musée du Louvre الذي يقع على الضفة الشمالية لنهر السين.
ويعد متحف اللوفر أكبر صالة عرض للفن عالمياً، كما يحتوي على العديد من التحف التي تنتمي إلى مختلف الحضارات الإنسانية، وفيه اللوحة الشهيرة الموناليزا للرسام الإيطالي الذائع الصيت ليرناردو دافنشي.
وقد كان المتحف قلعة لحماية باريس إبان غياب الملك فيليب أوغوست أيام الحملات الصليبية عام 1190م ثم تحول إلى قصر ملكي عرف باسم قصر اللوفر، سكنه ملوك فرنسا حتى عهد الملك لويس الرابع عشر الذي غادره إلى قصر فرساي، ثم تحول إلى متحف في عام 1793م.
كانت أعمال بوابة المتحف الرئيسة بشكلها الهرمي قيد الإنشاء في ساحة نابليون، ويدلف الزوار من مدخل جانبي سلكته ومعي تذكرة الدخول وبدأت بقسم آثار الحضارة العربية الإسلامية وحضارات الشرق القديم ووقفت طويلاً أمام التمثال الرائع الكامل للبطل الأسطوري ملك أوروك جلجامش الذي أصبحت أسطورة بحثه عن ماء الخلود المعلقة العربية الأولى كما سماها الدكتور نجيب محمد البهبيتي رحمه الله، وكانت شخصيته نموذجا استلهمته وطورته الأساطير اليونانية والرومانية (هرقل، أخيل ماشيست) وبدا في تمثاله انسدال جديلتين من شعره الطويل كانتا سبباً في تسميته بالعربية (ذو القرنين)، وهي التسمية التي أطلقها الإغريق لاحقاً على الإسكندر المكدوني.
وهالني ما رأيته من كثرة الآثار المصرية الفرعونيّة التي استقدمها الفرنسيون إبان حملة نابليون على مصر. ثم عرجت على آثار المغرب وإفريقيا وآثار اليونان والرومان وحضارات الشرق الأقصى قبل الانتقال إلى جناح الفنون بما يحتويه من لوحات لا تقدر بثمن وفي مقدمتها لوحة الموناليزا (الجوكنذا) التي وقفت أمامها مستذكرا كل ما قرأته وسمعته عنها واختلاف رؤيتها بحسب اختلاف مزاج الناظر إليها. استغرقت بقية أقسام المتحف وقتا طويلا لم أشعر معه بمرور الوقت إلا بعد أن نبهتني بداية شعوري بالتعب فخرجت عبر ساحة نابليون وعثرت على أول مقهى ومطعم ألقيت جسدي المتعب على كرسي أمام طاولة صغيرة لتناول وجبة واحتساء شيئا من القهوة حتى بدأ الظلام يلقي أستاره شيئا فشيئا ونلت قسطا من الراحة وزالت عضة الجوع وكان علي ركوب (المترو). وفي طريق العودة قفز إليّ من الذاكرة موعد كنت حددته للقاء مع زميل فاضل وتراثي عراقي مقيم في باريس وكان رقم هاتفه في مذكرتي الورقية الصغيرة في حقيبة أمتعتي ولما وصلت إلى البيت أخرجت رقمه وبادرت بالاتصال.
ولما عرفت بنفسي سر سرورا بالغا من وجودي في باريس وتجاذبنا أطراف الحديث وأخبرته بمكان نزولي فطلب أن نلتقي فقلت على الرحب والسعة، وكنت أعلم سعة اطلاعه على أماكن وجود نوادر المخطوطات العربية في مكتبات العالم واهتمامه بالتراث وكنت التقيت في دمشق أخاه الدكتور خليل إبراهيم العطية (1936 - 1998م)، رحمه الله هو باحث ولغوي وشاعر عراقي. اتفقنا على اللقاء في مكتبة اسمها «ابن سينا» تقع في الجانب الغربي من معهد العالم العربي في العاشرة من صباح اليوم التالي لنزوره معاً واستقر الأمر على ذلك. أويت إلى فراشي مبكراً لأكون على الموعد. ومعهد العالم العربي L›Institut du monde arabe مؤسسة قائمة تخضع للقانون الفرنسي، وأُنشِئت لتكون، في الأساس، أداة للتعريف بالثقافة العربية ولنشرها، تأسس عام 1980م، عندما اتفقت 18 دولة عربية على رأسها المملكة العربية السعودية وفرنسا يقع المعهد المتميز بهندسته العربية التي تجمع بين التراث والحداثة في قلب الحي اللاتيني (Quartier) في الجادة الخامسة من أحياء باريس على يسار نهر السين.
وغير بعيد عنه يقع مسجد باريس الكبير. بكرت صباح اليوم التالي بالخروج ووصلت مبكرا فطفت في المكان حتى وقفت أمام المكتبة فرأيت رجلاً كبيراً لم تدركه الشيخوخة بعد يجلس على كرسي وأمامه على طاولة صغيرة ما تبقى من فنجان قهوة وفي جوف المكتبة الطولية سيدة تتولى ترتيب الكتب فألقيت تحية الصباح بالعربية فالتفتت إلي السيدة وردت التحية فبادرت بالقول إن لدي موعدا مع الدكتور جليل العطية فثقلت راجعا لانتظاره ولما وصلت أمام الجالس على الكرسي بادرني بلا مقدمات بالقول بالفرنسية: أنت تبحث عن الشهرة؟ فكان الرد المباشر بلا تفكير لا... أنا مشهور من زمان. وانقطع الحديث وتابعت طريق خروجي ولدى الباب التقيت بالدكتور جليل الذي دخل وسلم وخرج وقال لي هل تعرف الجالس؟ فأجبت بالنفي فقال: هذا الدكتور عبد الرحمن بدوي فأخبرته بما حدث فضحك ولم يعلق وكأن ما حدث أمر معتاد. زرنا متحف المعهد وقضينا وقتاً طويلاً في المكتبة التي تردها الكتب من أنحاء العالم العربي مما نسمع عنه ولا نراه من الكتب المغاربية والعراقية على وجه الخصوص. انتصف النهار ومضى وقت من بعد الظهيرة وقدرت أن الدكتور جليل ربما يكون لديه بعض الارتباطات والواجبات الأسرية فأخبرته برغبتي في إدراك موعد مع صديق في مركز جورج بومبيدو فألح علي بمرافقته للغداء فاعتذرت وافترقنا على مودة بعد أن شربنا القهوة في الطابق الأخير من مبنى المعهد وباريس تتحف نواظرنا بما يسر النفس والخاطر.
قارب ما كنت أحمله من فرنكات فرنسية على النفاد ولم يبق إلا ما يكفي للعودة إلى ليون وتناول ما يسد الرمق حتى نهاية الشهر.
حزمت متاعي في صباح اليوم التالي وخرجت باتجاه محطة القطارات بعد أن حرصت على وضع كل شيء في موضعه من السكن وأودعت المفاتيح حيث اتفقنا.
كانت العودة إلى ليون وإلى البيت الذي اعتدت عليه مع فيليب والذي كان يتردد إليه الأصدقاء مبعث ارتياح وكأنما كان مقدمة لوقائع سيكون لها أثر في انفضاض سامر الحي من وقائع وأحداث سيكون موضعها في شذرة قادمة بعد عيد الأضحى السعيد -بإذن الله- ولنا بحوله لقاء.