د. شاهر النهاري
الثقافات العالمية تختلف، وكم تتباين وتتوافق بين موقع جغرافي، وبيئة، وطباع مجتمع، ويبدو أن الجزيرة العربية قد عاشت تلك المنافسة الحماسية بعمق مزاج وتخريم يسبب الصداع، حماسة بين سواد أوراق الشاي، وشقار مصفاة القهوة من نتاج حبوب البن، رغم أن المنتوجين، لم يكونا من مزروعات أهل الجزيرة، ولكن خطوط الحرير، وقوافل البهارات المتهادية من دول المحيط الهندي، بالإضافة لرحلة الشتاء للشام والصيف لأقصى اليمن، التي كانت مباهج مضنية تجلب للسعودي الصحراوي القديم، والذي تعرف عليهما ثم وقع في غرامهما، وبما يحملانه من لذة ونباهة ومزاج سلطاني رسخهما في عمق مخيلته وثقافته وجيناته، وزين بهما أحواله وأوقاته، من شروق الشمس، وحتى آخر نجمة وداع وهجوع مبات، وحتى لو سببت له تذبذبا في المنام، وهفوة سمر تدق على أديم طبول.
البضاعة حينها كانت شحيحة عزيزة الثمن، والتعامل معها لم يكن يحدث بصور مستقرة متفق عليها، فالمزاج أحوال شخصية وانتقاء، ما جعل الأسود والبني يمران بعدد من التجارب والبراهين، والتقليد، والتفاضل حتى غدت علامات قدرة ورغد وسعادة ونكهة يتبعها عقل وخاطر وخريطة مراد السعودي، في بيت قريته وأينما غرس أوتاده وحلت رحاله في الصحراء.
القهوة كانت سمراء بعد تشهيفها، ثم طحنها بطقوس جرس رقصة الهون وتقنين يحفظ رائحتها، وكل ذلك يحدث حول الصلل الملتهب، بنغمات الهون لحباتها الساخنة، قبل أن تفور على الجمر، أمام أعين الضيوف، وزيادة في الفنيات يوضع عليها ما يتيسر من نخوة، أو مسمار، أو حبات هيل تشيع رائحتها في الأنوف، قبل أن تصب للمتشوقين فناجيل محبة صافية بإشارات كرم ما يأتي بعدها، وخيوط تكاد تربط حول رأس المصدوع، وتحيي رقاد النعسان، وهي بحضورها تدل على كرم المضيف، ما جعل الأشعار تطريها، وتتغنى بها «الدلة اللي ما تبهر من الهيل، مثل العجوز اللي خبيث نسمها» وبعنصرية رجولية لكبار السن، وامتداح للمضيف المصنف المتبرم «قهوتكم مشروبه ووجوهكم مقلوبة»، ويقول صاحب البيت «القهوة بيمينك» دلالة على قدر ما تغلي من قيمة الحبيب وترفعه، وحين سعادة تصدر الضيف العزيز للمجلس، يقال «القهوة خص، ثم قص» أي يخص الضيف بأول الدلة، ثم يعطى لبقية الحضور باقيها، ويقال لبيت البخيل «دخان بلا قهوة، كراعي بلا فروة»، ويقال الكثير مما يؤسس لثقافة القهوة ومعانيها، وكرمها وضيافتها للغالي، وبالتالي إشباع المزاج العالي.
أما الشاي، ذلك الأخضر في الأرض البعيدة، الأسود في السوق، والأحمر في البيت، فهو فاكهة الشباب والصغار، خصوصا باحتوائه على الكثير من السكر الشحيح عند الكثير قديما، حتى أن من يزيد نسبته في فوحة البراد يعد من الكرماء، لدرجات تتعالى بلذة شربه وهو يدعو لالتصاق الشفتين، ويقال «والله لولاك يا السكر، ما شربناك يالشاهي».
والشاي يتنوع بتباين الأمزجة، فمنهم من يعشقه بالنعناع، أو مع الحبق، والبردقوش، أو مع أنواع أخرى من الزهورات والأعشاب، ولكن شاي الجمر يتسيد الأنواع بتلقيمة لا تثقل إلا بعد نفاذ الصفوة والكيف.
وفي أيام رمضان في الزمن القديم يكون للقهوة والشاي منافسة وتراتبية بعد أذان المغرب، فالقهوة تكون ساخنة يحتضنها الجمر، ويتم صب فناجينها للصائمين أثناء فك الريق، مع التمر، أما الشاي، فيأتي متأخرا كالعريس بعد إتمام الفطور، وبراريده المتكررة تسامر الليل، يرتوي منها الصغير والكبير، ولا يكادون يتركونها إلا بعد وجبة السحور.
وهذا في البدايات، ولكن الأوضاع العصرية الحالية في الجزيرة العربية أدخلت القهوة السوداء خصما عنيدا، من خلال المقاهي، التي يتوجه لها الكثير لحمل كبايات ورقية تفوح رائحتها، سواء كانت بالسكر أو مرة، أو بالحليب لتخفيف مفعولها، وبدرجات وأنواع وطقوس، فنجد الساخن منها، والبارد والمثلج، وكل له مزاجه، وكل يعتقد بأن الآخرين لا يقدرون المزاج العالي العظيم، الذي يخصه ويدمنه.
مزاج القهوة القديمة، والتي كانت بقطرات قليلة في أسفل البيالة، لم يعد يكفي من أدمنوا شرب القهوة السوداء، ولم يعد يطيب لهم عمل ولا سفر، ولا حوار ولا اجتماع إلا وهم يحتضنون الكباية الضخمة العجيبة، التي تصنع يومهم وليلهم وخواطرهم.
أما الشاي، فهو يستمر في عصرنا يحارب وينتصر عند الكثير من متابعيه، وبعد أن وضع له إضافات خارجية كم تفسد للمزاج قضية، وربما يشطح بعض محبيه، ويطلبه مثلجا، أو بالحليب، على شكل كرك، متعمدين اللعب في كل معالم صفاء دم الغزال ولذة أوراقه، ومما يفرق كثيرا عند أصحاب التذوق لمختلف تركيبات فنجان الشاي الأصيل.
ورغم كل تلك التغيرات في ثقافة القهوة أو الشاي، يظل كبار السن، محافظين على تناولهما بنفس الطريقة القديمة، مع التقليل من السكر للمحافظة على صحتهم، ومرات يضطرون لتجريب شاي أو قهوة الجيل الحالي، وقد يعجبون بها، أو يشعرون مرات أنها أداة تعذيب، أو نوع من مشاريب التداوي المرة، يتناولونها بأعين م غمضة.
سمعت أحدهم يهتف بفخر: أنا من حزب الشاي، أقف احتراما لصاحب كل شفطة حمراء منعنشة.
وأخر يشترط على من دعاه لمناسبة: الشاي الأخضر بعد الذبيحة شرط!
وسمعت أحد أهل حزب القهوة يقول: لا أعرف كيف كان الناس يعيشون قبل شحن العقول بكبايات القهوة؟
وآخر يعلق: من ينكر القهوة السمراء، مثل من يرتدي غير مقاسه، يوم عيد حزين.