عبدالله العولقي
معظم الكتاب والشعراء والروائيين لديهم طقوس معينة أثناء ممارسة العملية الإبداعية، بيد أن بعضهم لا يعترف بهذه الطقوس فيكتب متى شاء وتحت أي ظروف، مثل الكاتب السوري الشهير علي أحمد سعيد الملقب بـ أدونيس، فيقول عن ذلك إن جسده بآلياته المختلفة هو الذي يقرر زمن الكتابة ونوعها، وأنه وحده من يمتلك زمام زمنه الإبداعي، فهو يستطيع أن يكتب في الليل أو النهار، وتحت أي ظروف، فلا يكاد يمر عليه يوم واحد دون أن ينجز نصاً أدبياً، وهو بهذه الحالة يستطيع أن يكتب في الشارع والمطار والفندق والمقهى دون أي قيود، لكنه لا يستطيع الكتابة في البيت الذي يألفه ويسكنه، معللاً ذلك بأن اللغة هي ربيبة الهجرة والترحال والمنفى، وهي نقيض الألفة والسكينة والدعة، وحالة أدونيس تذكرني بالكاتب النرويجي أبسن، والذي لم يكن يهتم بمكان الكتابة ولا بزمانها، ولكن مصدر الغرابة في طريقة كتابته الإبداعية أنه كان يضع صورة منافسه وخصمه اللدود سترندبيرغ أمامه وهو يكتب، وكان يعلق على تلك العادة بأنه يريد أن يغيظه وهو يتفرج على إبداعه قبل أن ينشره في الصحافة !
كثيراً ما ألمح عند قراءتي لسير الكتاب المبدعين عاداتهم الغريبة وطقوسهم المعينة التي يتخذونها قبل شروعهم في الكتابة، فالكاتب المبدع لا يبدع إلا في حالة يصل فيها ذهنه إلى ما يسمى (الصفاء الذهني)، وهم بتلك الطقوس التي يبتدعونها لأنفسهم يصلون إلى درجة صفائهم الذهني، أو لعلهم يوهمون أنفسهم بهذه الطقوس أنهم وصلوا إلى درجة الصفاء الذهني.
وفي هذا المقال سأستعرض الأوقات التي يحبون أن يكتبوا فيها والوسائل التي يتخذونها في سبيل الإبداع، فالشاعر الفلسطيني محمود درويش يقول إنه شاعر نهاري، لا يكتب إلا تحت خيوط الضوء الطبيعي، ولا يكتب إلا بقلم الحبر ذي اللون الأسود، وعلى ورق أبيض غير مسطر، وكلما شطب سطراً على الصفحة يشعر بالضجر فيمزق الورقة بالكامل ليستبدلها بورقة جديدة، وقد يحدث أن تتعثر الكتابة، فيتشاءم من القلم لا من اللحظة الإبداعية التي أبت أن تتآلف مع ذهنه، فيستبدل القلم على الفور، وكأن المشكلة في القلم لا في إلهام الشعر!
أما الأديب الروائي الشهير بلزاك فكان لا يكتب إلا ليلاً، فكان يغلق النوافذ عليه بدءاً من الساعة العاشرة مساءً ثم يحضر طنجرة كاملة من القهوة ويبتدئ بالكتابة حتى الصباح دون توقف، وهكذا كان يشتغل خمس عشرة ساعة يومياً بعد أن يبتلع عشرات الفناجين من القهوة، ولذلك كان يقول : إن حياتي تتلخص في خمس عشرة ساعة أضنيها في العمل والعذاب وهموم المؤلف وصقل العبارات وتصحيحها، ومما يذكر التاريخ أن أمير مصر الخديوي اسماعيل كان مهتماً جداً بالصحافة والصحفيين، فكان يأمر لمحرري صحيفة ( الوقائع المصرية ) الناطقة باسم الحكومة بالماء العذب والبن العربي والقهوة التركية حتى يصفو مزاجهم أثناء الكتابة ويعتدل صفاؤهم الذهني، بل كان يخصص ساقياً خاصاً لتلبية هذه الاحتياجات عند طلبها، أما فيلسوف فرنسا الأشهر ( فولتير ) فكان لا يكتب إلا إذا وضع اثني عشر قلماً رصاصاً أمامه، وبعد أن ينتهي من الكتابة يكسر هذه الأقلام ثم يلفها بالورق ويضعها تحت وسادته حين ينام!
أما الروائي والقاص الفرنسي الشهير الكسندر دوماس فقد كانت له طريقة عجيبة في الكتابة، فقد كان يكتب رواياته على ورق أزرق بأقلام خاصة، ويكتب قصائده على ورق أصفر بأقلام خاصة، ويكتب مقالاته الصحفية على الورق الوردي، وكان يكتب على ركبته ولم يستعمل المنضدة قط !!، وأمير الشعراء أحمد شوقي كان يختار الهزيع الثاني من الليل، فيظل ينظم الشعر حتى منتصف الساعة الرابعة من الصباح، وكان يمشي حول المنزل ثم يعود ويملي على كاتبه مجموعة من الأبيات، ثم يعود للمشي ثم الإملاء، وهكذا وإذا استعصى عليه الشعر طلب ثلاث بيضات نيئة فيشربها ثم يعود إلى المشي والإملاء، وحتى لا تضيع عليه الأبيات وينساها كان يكتبها على كف يده أو على كرتون السجارة !
الكاتب الفرنسي استندال كان يقرأ صفحة من الدستور الفرنسي قبل أن يكتب، والكاتب الروائي الشهير هيمنجواي كان يمسك سكيناً ويبري عدداً من الأقلام الرصاص، ويقول الأستاذ أنيس منصور عن هذه العادة : إنه عندما زار منزل هيمنجواي بكوبا وجد عشرات الأقلام على مكتبه وعشرات الأحذية تحته، فهو يكتب كثيراً ويمشي كثيراً، وكان يكتب واقفاً، فقد أصيب بكسر في ظهره على أثر حادث طيارة !!، أما الشاعر الأمريكي ادجار آلان بو فكان يضع قطة على كتفه – طوال وقت الكتابة – ويحاول ألا تقع، ويتحرك إلى الإمام وإلى الخلف، والقطة تحاول أن تتوازن وهو يحاول أن يزن كلامه !
أما عملاق الفكر العربي عباس محمود العقاد فكان يكتب جالساً إلى جوار المكتب لأن مكتبه كان صغيراً ولا يستطيع الأستاذ أن يدخل ساقيه تحته، وكان يكتب على صفحة في حجم كف اليد، ويكتب بخط صغير جداً، ويتشابه في هذه العادة مع توفيق الحكيم واحسان عبد القدوس وأحمد حسن الزيات ومحمد التابعي، أما الأستاذ أنيس منصور فقد كان يصحو في الساعة الرابعة فجراً ويذهب إلى مكتبه للكتابة ولا يكتب إلا وهو حافي القدمين ومرتدياً البيجامة، ولا يكتب في النهار أبداً، ويتشابه الأستاذ في ذلك مع الروائية الدكتورة هيفاء بيطار فإنها هي الأخرى تصحو فجراً وتشرع في الكتابة ساعات وساعات دون أن تدرك الوقت.
يقول أنيس منصور عن طقوسه الخاصة: كل يوم أصحو عند الخامسة صباحاً، أغسل يدي، لا بد أن أغسل يدي، وأبلل عيني بالماء ثم اتجه إلى مكتبي، وأزيل كل الكتب من فوق المكتب، بل كل قلم وكل ورقة وكل ما أجده يعترض عيني، ثم أطفئ نور السقف حتى إذا نظرت إلى المكتبة فلا أرى شيئاً من الكتب حتى لا تشغلني، فأنا لا أريد أن أنظر إلى شيء أو أن أركز على شيء، أما الورق فلا بد أن يكون أبيض بلا سطور، طويلاً ناعماً، أما القلم فأمامي عشرات الأقلام، لا بد أن يكون حبرها أسود قاتماً، ناعمة تنزلق على الورق بسهولة، وأنا أكتب بسرعة التفكير بالضبط، ولذلك فالحروف كبيرة وخطي ليس واضحاً تماماً وأكثر الكلمات بغير نقط، وكثير غيري يفعلون ذلك، فشكسبير يكتب بسرعة هائلة، ويقال إنه كان لا يشطب كلمة واحدة وكان يختار ورقاً صغيراً، وعندما كتب الاديب الفرنسي الشهير فيكتور هوجو روايته أحدب نوتردام، لم يجد وسيلة لإرغام نفسه على ملازمة منزله لإكمال مهمته الروائية في وقت قياسي سوى خلع ثيابه بالكامل طيلة فترة الكتابة، ومن يقرأ ما يكتبه من خلال مخطوطاته يجد أن الصفحات التي يكتبها ليست إلا معركة بين الذي كتبه وبين الذي أعاد كتابته، وبين الذي شطبه وبين الذي وضعه بين السطور، بمعنى أن كتاباته أشبه بالخربشة على الورق ومن الصعب قراءتها، وهذا يذكرني بالأديب الروسي الشهير ديستويفسكي والتي كانت مخطوطاته أشبه بالأحجية أو اللغز، وأما الفيلسوف الأمريكي بنيامين فرانكلين فكان يكتب وهو على البانيو، وهو أول من أدخل البانيو إلى أمريكا، أما أديب فرنسا جوستاف فلوبير فكان يضيء البيت والحديقة حتى يخيل للناس أنه يقيم وليمة، فيقف الناس ليروا السادة الضيوف الذين دعاهم فلا يجدوا أحداً.. أما كاتب قصص الأطفال أندرسن فكان إذا جلس ليكتب فإنه يملأ قميصه بالصحف، فقد كان نحيفاً جداً ويضيق بهذه النحافة ولذلك كان حريصاً على أن يبدو ممتلأً فإذا تحقق له هذا الشعور فإنه يسرع بالكتابة، وكان إذا نام يخيل إلى من يقترب منه أنه ميت، ولذلك كان يكتب ورقة إلى جوار سريره عليها هذه العبارة : لست ميتاً ولكن أبدو كذلك !!
أما الأديب أحمد حسن الزيات فقد كان رجلاً أنيقاً يرتدي كل ملابسه ثم يكتب على ورق صغير وكانت كلماته والحروف والنقط كلها واضحة، على الرغم من أن خطه صغير جداً، وأما المؤلف البوليسي جورج سيمثون فكان يذهب إلى الطبيب ويجري فحصاً عاماً وبعد أن يطمئنه الطبيب على قلبه ومعدته وضغطه وتنفسه، وبعد ذلك يدخل إلى مكتبه حيث يوجد سرير ومطبخ صغير ويعلق ورقة على بابه تقول : مشغول إلى نهاية الأسبوع، وعند نهاية الأسبوع يكون قد فرغ من إحدى رواياته التي بلغت 250 رواية!
وكان الشاعر الألماني جيته يكتب واقفاً فلديه التهاب مزمن في مصرانه الغليظ، وهناك من يكتب وهو منبطح على الأرض مثل الشاعر الإنجليزي والتر سكوب والأمريكي الساخر مارك توين، كما أن هناك من يكتب وهو واقف مثل الشاعر الألماني جوتي والشاعر الإنجليزية فرجينيا وولف.