د. تنيضب الفايدي
اهتمّ العرب منذ القدم بالتجارة، بل اهتموا بتحسين الطرق ووضع العلامات عليها، حيث يروي الأصمعي أن الملك أبرهة ذا المنار الذي ولي الملك بعد أبيه الحارث الرائش، هو «أول ملك نصب الأعلام وبنى الأميال على الطرق والمناهل فلذلك سمي ذا المنار».
ولا نكون إلى الغلو إذ قلنا إن معظم تجارات العالم منذ القدم حتى القرون الوسطى كانت لها علاقات تجارية وسياسية مع بلاد العرب، فقد شغلت دول العرب القديمة كتدمر وسبأ ولحيان ودادان والمعينيين المراكز الممتازة في التجارة، لذا نجد بأن أكثر العرب رجالاً ونساءً مارسوا التجارة، خاصةً الذين تقع بلادهم قريبة من الطرق التجارية أو طرق الحج، ومن لم يتاجر منهم عملوا في القوافل التجارية، إما دليلاً أو سائقاً أو منتظماً في جملة حماتها الذين يؤجرون أنفسهم وسلاحهم ودوابهم فيها. فلم نستغرب على اسطرابون حينما قال: «العرب تجار وسماسرة» و»قوم تجارة وبيع وشراء ولذلك لم يكونوا أمة حرب لا بالبر ولا بالبحر».
ولما كانت التجارة من أهم أعمال العرب، فقد كانت هناك أسواق تقام وقت المواسم خاصةً موسم الحج، حيث تأتي القبائل العربية إليها، وكانت تلك الأسواق لا تختصر على تبادل السلع فقط، بل هناك محافل أدبية وأندية اجتماعية، حيث يجتمع فيها الشعراء والخطباء فينشدون ويخطبون، وكان لهم حكّام في هذه الأسواق يفصلون بين المتنافسين في المجالات الأدبية، كما تقوم فيها بافتداء أسراها، وتجري فيها مختلف الأنشطة الاجتماعية كالصلح بين القبائل وفصل النزاع بينها. وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- في بداية دعوته يعرض نفسه في هذه الأسواق أمام القبائل العربية يدعوها إلى الإسلام مثل: سوق عكاظ، وسوق مجنة، وذي المجاز وغيرها من الأسواق.
أسواق مكة
تعدّ أسواق منطقة مكة المكرمة من أشهر وأوسع أسواق العرب قاطبة، كما كانت هذه الأسواق نظراً لانعقادها في الأشهر الحرم، ملاذاً آمناً للمطلوبين في الثأر يأوون إليها طالبين الجوار من أشراف مكة المكرمة ووجهائها الذين كانوا –آنذاك- يتدخلون غالباً بين القبائل المختلفة للصلح وفداء الأسرى وتسوية أمور الديات المعلقة. ليس ذلك فحسب بل إن بعض أسواق منطقة مكة المكرمة أصبحت مع مرور الوقت منارات فكرية وثقافية يقصدها فحول الشعراء والبلغاء والخطباء من كلّ حدب وصوب في جزيرة العرب نفسها ومن خارجها، لقد أدت أسواق عكاظ ومجنّة وذي المجاز دوراً كبيراً في الحياة الثقافية باعتبارها مهرجانات أدبية، حيث أثرت في اللغة والأدب والدين والعادات تأثيراً كبيراً.
ومن أشهر أسواق منطقة مكة المكرمة:
سوق عكاظ
كان موقع السوق القديم الجنوب الشرقي من مكة المكرمة، والشمال الشرقي من الطائف، وسمي عكاظ عكاظاً؛ لأن العرب كانت تجتمع فيه فيعكظ فلان خصمه باللدد تعكّظا إذا تحبّسوا ينظرون في أمورهم، قال: وبه سميت عكاظ، وحكى السهيلي: كانوا يتفاخرون في سوق عكاظ إذا اجتمعوا ويقال: عكظ الرجل صاحبه إذا فاخره وغلبه بالمفاخرة، فسميت عكاظ لذلك. وتباينت آراء العلماء في تعيين أيامها، فمنهم من يقول: إنها تبدأ من منتصف ذي القعدة حتى آخره، وآخرون يجعلون وقتها في شوال، ومعلوم أن شهر شوال لا يدخل في الأشهر الحرم. وأغلب العلماء اتفقوا على أن سوق عكاظ تبدأ من غرة ذي القعدة وتستمر حتى العشرين منه بعد انفضاض سوق صنعاء التي كانت تنعقد خلال النصف الثاني من شهر رمضان، وكان يشارك في سوق عكاظ عددٌ من أكبر قبائل العرب مثل: قريش، وخزاعة، وغطفان، وهوازن، والمصطلق، وغيرها. وفي سوق عكاظ كانت تعقد معاهدات الصلح والسلام، ويتفق المتخاصمون على دفع الديات، علماً بأن سوق عكاظ علاوة على انعقادها في أيام معروفة وفي موسم معروف، إلا أن السوق كانت تنعقد في أيام الآحاد من كلّ أسبوع وعلى مدار العام بأكمله، ولكن بشكل مصغر من أجل تلبية احتياجات من حوله.
وقد أدت سوق عكاظ دوراً مهماً في الحياة الاقتصادية لمنطقة مكة المكرمة منذ عصور ما قبل الإسلام، فضلاً عن أدوارها المختلفة في كلّ جوانب الأدب والثقافة والتاريخ والدعاية والإعلام وغيرها من الجوانب المؤثرة في حياة العرب.
وقد استمرت سوق عكاظ تؤدي دوريها الفكري والاقتصادي طوال ما يقرب من ثلاثة قرون، حتى نهبت من قبل بعض طوائف الخوارج الحرورية بزعامة المختار بن عوف عام 129هـ/ 747م، فلم تقم لهذه السوق بعد ذلك قائمة. وتميزت سوق عكاظ عن غيرها من الأسواق العربية المهمة بميزتين نادرتين، أولاهما أنها لم تكن تفرض فيها الضرائب أو رسوم الخفارة (أي: مقابل الحراسة)، والميزة الثانية أنها تعتبر مجمعاً أدبياً شعرياً لغوياً متفرداً، كانت تتخذ طابعاً عاماً رسمياً، ويحكّم فيها محكمون محترفون لمن يقصدونها لإظهار مهاراتهم اللغوية. والأجود منها تعلق في الكعبة المشرفة، وهي التي أطلق عليها اسم المعلقات. وكان ممن حضر هذا السوق الخنساء بنت عمرو بن سليم التي كانت تنشد مرثيتها في أخويها صخر ومعاوية.
سوق مجنّة
من الأسواق التي تقام بالقرب من مكة المكرمة سوق مجنّة، وقد تعدّدت تشكيلاتها اللغوية بين مَجَنّة، ومَجِنَّة، ومِجَنَّة، أما اشتقاقها فيمكن أن يكون أصلها جنّة، وهي بمعنى استتر وظلم، والعرب تسمى النخيل جنّة، جمعها جنان، فيحتمل أنها سميت مجنّة لبساتين تتصل بها، ويحتمل أن يكون أصلها من الفعل مجن يمجن مجان، أي: ماء كثير كاف، كما تقول العرب، ولعلّ لمجنّة صلة بكلمة ماجن أو ماجل، التي تعني الماء في أصل كل جبل أو وادٍ.
وقد اختلفت الروايات في تحديد موقعها، فبعضها يرجح أنها تقع في مر الظهران بالقرب من جبل الأسفل، وثمة من يرى أنها موضع الأثيداء جنوب شرقي مكة المكرمة. وقال الآخر: بين عكاظ وذي المجاز، ورجح أحد الباحثين أن مجنّة كانت تقام بين الشرائع وجعرانة إلى الشمال بالقرب منها، وعرف الطريق بينهما بطريق مجنّة في الغالب. وقيل: إن سوق مجنّة يقع في وادي سَرِف، وذلك لأنّ أرضه تشبه المجنّة أي: الترس الذي يعني الاختفاء والاستتار، وذلك لإحاطتها بالجبال.
وكان التجار وكثير ممن يقصدون البيت للحج يفيضون على إثر انتهاء موسم سوق عكاظ إلى سوق مجنة، حيث كان يقام بها سوقهم منذ الجاهلية لمدة عشرة أيام، وقيل: عشرين يوماً. وقد سعت قريش نصب هذا السوق وغيرها في موسم الحج الأكبر، ووفرت للوافدين إليها الأمن والحماية والخدمات؛ لأنها تعود لهم بالأرباح الوفيرة والمكاسب الهائلة.
قال أبو ذؤيب الهذلي:
تزوَّدها من أهل بصْرَى وغزّة
على جسْرةٍ مرفوعة الذيل والكِفلِ
فوافَى بها عُسفان ثم أتى بها
مجنّةَ تصفو في القِلال ولا تغلي
كما ذكر مجنة بلال رضي الله عنه:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً
بوادٍ وحولي أذخر وجليل
وهل أردْن يوماً مياه مجنةٍ
وهل يبدُون لي شامةٌ وطفيلُ
وقد شهد سوق مجنة نشاطاً دينياً وتلاقحاً فكرياً في عصري الجاهلية والإسلام، كما أن نهضة الشعر في عصر الجاهلية كانت مَدينةً للأسواق، ولم يكن سوق مجنّة يختلف كثيراً عنها في فعالياته الأدبية وطقوسه ونشاطاته الاجتماعية اليومية.
سوق ذي المجاز
ذو مجاز: موضع سوق بعرفة على ناصية جبل كبكب بالقرب من عرفة وكانت تقوم في الجاهلية ثمانية أيام.
وقال الشاعر:
واذكروا حلف ذي المجاز وما قدم
فيه العهود والكفلاء
قال البكري: «ذو المجاز موضع مذكور في رسم عكاظ، وكان ذو المجاز سوقاً من أسواق العرب، وهو عن يمين الموقف بعرفة، قريباً من كبكب». وقد اندثرت حالياً وذهبت معالمها، وكذا سوق مجنة بينما أعيدت معالم سوق عكاظ» وكانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً لمكة في الجاهلية».
عندما تنتهي نشاط سوق عكاظ ومجنة، وكانت سوق مجنّة تنتهي نشاطها في آخر ذي القعدة، فكان كثير من التجار المشاركين ينتقلون مباشرة بصحبة ما تبقى من بضائعهم إلى سوق ذي المجاز، لأن هذا السوق تنعقد ابتداءً من أول أيام شهر ذي الحجة، وتمتد فترة في حدود الأسبوع الواحد، حتى يوم التروية 8 ذي الحجة، فكانت مرتبطة بموسم الحج، وتقع هذا السوق من حول جبل كبكب قرب عرفة، وقد اشتهرت هذا السوق في عصر الجاهلية ببعض ضروب اللهو والمجون، كما كان بها سوق رائجة للسبي والرقيق، كما كانت سوق ذي المجاز موضعاً لفداء الأسرى وأداء الديات وطلب الجوار. قال ياقوت عن الواقدي: عكاظ بين نخلة والطائف وذو مجاز خلف عرفة ومجنة بمرّ الظهران، وهذه أسواق قريش والعرب، ولم يكن فيه أعظم من عكاظ، قالوا: كانت العرب تقيم بسوق عكاظ شهر شوال ثم تنتقل إلى سوق مجنة فتقيم فيها عشرين يوماً من ذي القعدة، ثم تنتقل إلى سوق ذي المجاز فتقيم فيه أيام الحج. وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يدعو الناس في سوق ذي المجاز فعن طارق بن عبد الله المحاري رضي الله عنه قال رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في سوق ذي المجاز، وعليه حلةٌ حمراء، وهو يقول: «يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا». قال المتوكل الليثي:
للغانيات بذي المجاز رسومُ
في بطن مكة عهدهن قديمُ
فبمنحر البدن المقلّد من مِنىً
حِللُ تلوحُ كأنهنّ نجوم
لاتنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
وقال أحد المؤرخين: «المجاز: شعب يسيل من جبل كبكب من جهته الغربية فيتجه غرباً حتى يدفع في وادي عرنة، عند التقائه بوادي حنين، على ثمانية أكيال من علمي طريق نجد شرقاً، وطول هذا الشعب لا يزيد على عشرة أكيال.
ثم أصبحت تلك الأسواق داخل مكة المكرمة، حيث الحزورة وهي مرتفِعٌ يُقابِلُ المسعَى مِن جِهَةِ المشرِقِ، كان سُوقًا مِن أسواقِ مكَّةَ، وعلى الحزورة وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وقت هجرته من مكة وقال: «أما والله إنك لأحب البلاد إلى الله سبحانه ولو لا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت» رواه الترمذي وابن ماجة. فعن أبى سلمة عن عبد الله بن عدي بن حمراء قال رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو واقف على راحلته بالحزورة في سوق بمكة وذكر الحديث بكامله.
وجاء في شفاء الغرام أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقف يوم فتح مكة على راحلته بالحزورة وهو يقول لمكة (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إليّ، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت).
إن هذه الأسواق من جهة أثرت في رقي نهضة العرب، فمن جهة أخرى لها أثر كبير في اللغة والأدب وثقافتها، فقد كانت ساحة العرب تعجّ بالفصحاء والأدباء والشعراء في ذلك الوقت.
بعض المراجع: الجبال والأمكنة والمياه للزمخشري، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب للألوسي، معجم البلدان للحموي ، نفحات أدبية عن درر ومواقع مكية للدكتور تنيضب الفايدي، طرق المواصلات القديمة للدكتور صالح، أسواق العرب في الجاهلية والإسلام تأليف: سعيد الأفغاني، الأسواق المكية ودورها في تشكيل الملامح الثقافية والحضارية في مكة المكرمة، لـ: محمد خليفة، معالم مكة التاريخية والأثرية للبلادي، أسواق العرب التجارية للدكتور حمدان الكبيسي، سوق مجنة: دراسة في موقعه ونشاطه للدكتور خالد بن عبد الله آل زيد، إيلاف قريش، رحلة الشتاء والصيف، لـ: فكتور سحاب.