د. جمال الراوي
قام أحد الكتاب الفرنسيين بزيارة معظم الحمامات العمومية في فرنسا، ونقل منها الرسومات والكتابات على جدرانها، وجمعها في كتابٍ، وقال بأن هذا الكتاب يحمل -بين دفتيه- الثقافة الحقيقية للفرنسيين، وأنه يعطي فكرة عن العقل الباطن المخفي، وأن فيه ذاكرتهم وطريقة تفكيرهم، وأسلوب حياتهم، وفيه أمانيهم وأحلامهم، وشتائمهم ومساوئهم.
ورغم أن الفرنسيين ينعمون بحرية فكرية تامة، لهم الحق في إبداء آرائهم، لكن الكثير من الأفكار لا يستطيعون البوح بها، خشية الملاحقة القانونية، لأنها تحمل إساءات شخصية، عدا عن تعابير يرفضها المجتمع رغم إباحيته، لأنها تتجاوز الحرية الجنسية المسموح بها، لتصل إلى رغبات بالاعتداء الجنسي بطرق غير مشروعة.
هذا مع العلم بأن اللغة الشوارعية التي ينطق بها الأطفال، تمثل الثقافة الحقيقية للمجتمع الذي يعيشون فيه؛ لأن هؤلاء الأطفال ينقلون -عادة- الكلمات البذيئة التي تتردد -في بيوتهم- خلف الجدران؛ فينقلونها -بكل براءة- إلى الشارع؛ فتُسمع على شكل سباب وشتائم وقذفٍ في الأنساب والأعراض، وغير ذلك كثير!!
في مجتمعات اليوم؛ حلت مواقع التواصل الاجتماعي بدلًا من الشارع؛ فأتاحت للناس فرصة التخفي وراء أسماء وهمية مستعارة؛ فأطلقوا العنان لمخزونهم الثقافي والتربوي، ليصبوه على صفحات الشبكة العنكبوتية، فتُقرأ تعليقات فاحِشة هابطة، أرخى أحدهم العنان لقلمه كتابة كلمات تفوح منها رائحة السفاهة والوقاحة.
نقرأ - في بعض الأحيان - منشورات لكتابٍ، لهم معارضون يتابعونهم، ويعلقون على ما يكتبونه، ونجد كلمات بعض المُعلقين قميئة، تتجاوز حدود الخلق لتصل مرحلة الفجور، يسب أحدهم والدة هذا الكاتب، أو يجرح في عرضه وعرض زوجته وبناته، وغير ذلك من تعابير وكلماتٍ تتجاوز كل منطق وعقلانية؛ بعد أن جعل من معارضته للكاتب وسيلة لاستباحة شخصه ونسبه وأصله.
من يراجع اللغة الشوارعية، يجدها مليئة بمفردات قبيحة، تشمل الأعراض والأنساب، بطريقة قبيحة، يجد فيها الطعن في الأعراض، والسباب والشتائم، ويجد أبواب حمامات المدارس والمساجد تحمل رسومات خليعة وكلمات شائنة؛ فيكتشف أن خلف أبواب البيوت تجري انتهاكات خطيرة في حق أسماع الأطفال، الذين نقلوا هذا التراث البائس إلى خارج بيوتهم.
فإذا أردت أن تعرف ثقافة شعبٍ ما، فما عليك إلا زيارة حماماتهم العمومية، أو تصفح صفحاتهم على الشبكة العنكبوتية، لتعرف ما يخزنه عقلهم الباطن من أفكار ومعتقدات ومفاهيم!!