الحمد لله والشكر لله الذي حبا بلادنا بهذا الشرف العظيم، حيث تهفو - بإذنه تبارك وتعالى - قلوب المسلمين من شتى بقاع المعمورة طالبة الرضا والمغفرة والعتق من النار في هذه الأرض الطيبة في أيام معدودة. وسبحان الله الذي سخر لبلدنا قيادة آمنت وجعلت من هذه المسؤولية أمانة! هي أولى أولوياتها منذ قيام الدولة السعودية الأولى ليستقر الأمن والأمان وتؤمّن سبل الحج.
الله أكبر الله أكبر ولله الحمد على ما سخر وأعطى وتكرم علينا لتكون بلدنا قبلة ملايين المسلمين، يتجهون إليها على مدار الأربع وعشرين ساعة بقلوبهم مستقبلين القبلة مصلين، ومسبحين، وطالبين الرضا والمغفرة.
فلو توقفنا وتساءلنا: هل هناك مثيل لهذه الطاقة التي تجتمع متوجهة إلى البيت العتيق ترتقي بدعائها إلى خالقها من هذه البقعة المباركة؟! {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (الحج: 26) فلن نجد لهذه المكرمة الإلهية مثيلاً منذ أن خلق الله الأرض وما عليها. هذه النعمة تعيشها بلادنا كميزة فريدة حبانا المولى بها لابد من البناء عليها. فالإنسان يبني على الميزة النسبية التي تؤهله وتمكنه من البقاء منافسا في مجاله؛ وكما هو معروف فالمكان والمكان والمكان من أهم عوامل الميزة النسبية للمنافسة، وذلك بحكم العمل أو المنتج الذي تدرسه.
وهنا أرى المكانة والمكان الذي يجب أن تؤسس وتبني عليه بلادنا بما وهبها المولى من ميزة فريدة، تستدعي الاستدامة في الاستثمار في عمقنا الإسلامي بما يخدم أهدافنا التي يجب أن نبني أساسها على رسالتنا للعالمين. فما نراه اليوم في مواسم الحج وما سخرته بلادنا على مرّ الأزمان في خدمة حجاج بيت الله من استثمارات في البنى التحتية لتسهيل سبل الحج، ولأمن وسلامة الحجيج، لهو أكبر دليل على رسالة دولتنا أعزها الله في خدمتها لعباد الله في هذه المعمورة! وقد كان لي شرف خدمة حجاج بيت الله الحرام أثناء تشرفي بخدمة الوطن في الحرس الوطني، ومسؤوليتي في القطاع الغربي مكنتني من محاكاة الواقع عن قرب؛ فقد كان دور الحرس الوطني متكاملاً مع ما يقدمه الوطن وإنسانه من خدمات لضيوف الرحمن لوجه الله تعالى. نعم، ضيوف الرحمن وأهمية شرف خدمتهم وتسهيل أمور أدائهم مناسكهم بكل أمن، وأمان وطمأنينة وسلامة. أذكر منعطفا مهما عايشته في موسم حج عام 1417هـ، الموافق عام 1997م، حيث شب حريق في مشعر منى يوم الثامن من ذي الحجة، وكان للحرس الوطني والجهات الأمنية دور جبار في إخماد الحريق وإسعاف المصابين، وأهم من ذلك هو تسخير جميع الإمكانات لإعادة تأهيل المكان ببناء ما يقارب من سبعين ألف خيمة في أقل من أربع وعشرين ساعة لتكون جاهزة لاستقبال الحجيج بعد مبيتهم في مشعر مزدلفة وعودتهم إلى مشعر منى. ذلك اليوم كنت شاهداً على حدث غير في سلامة وأمن الحج وكان لي شرف معايشة أحداثه.
وقد كانا المغفور لهما -بإذن الله - الملك عبدالله بن عبدالعزيز والأمير سلطان بن عبدالعزيز يراقبان التطورات في ذلك اليوم، حين سأل الملك عبدالله الأمير سلطان مستفسراً عن نوعية الخيام المطورة في مبنى الحجاج في مطار الملك عبدالعزيز بجدة؟ فأجابه: أنها مقاومة للحريق وللظروف المناخية القاسية، وطلبا منه -يرحمهما الله - أن يقدم عرضا بأسرع ما يمكن في اليوم التالي عن المواد المكونة للخيام المقاومة للحريق. حضر المسؤولون عن المشروع وقدموا العرض على المقام الكريم، وفي لحظتها نظر الملك عبدالله -يرحمه الله - إلى وزير المالية الدكتور إبراهيم العساف قائلا: توكل على الله ولتبدأ في التواصل مع الشركات المصنعة؛ لأني أود أن أرى هذا النوع من الخيام مقامة في حج السنة القادمة. تقدم الوزير العساف بأسلوبه اللبق المعتاد قائلاً: سيدي قد لا نتمكن من ذلك بسبب سعرها المرتفع، حيث إنها ستكلف ما يقارب البليوني ريال، والميزانية لا تسمح بسبب تدني أسعار البترول والالتزامات الأخرى التي تشكل عائقاً في تنفيذ رغبتكم.
احتد الملك عبدالله -طيب الله ثراه - قائلاً: «سلامة وحياة واحد من حجاج بيت الله الحرام تساوي عندي كل هذه البلايين، أحضر ورقة وقلما وسوف أوقع لك أن تنفذ الأمر على مسؤوليتي لتبدأ في المشروع في أقرب وقت، وسوف يسهل المولى الأمور». وبالفعل بدأ التنفيذ وارتفعت أسعار البترول خلال أشهر وتيسرت الأحوال وتحقق المشروع.
وهذا بحمد الله يبرهن على صدق الأمانة والإحساس العالي بالمسؤولية التي وهبها المولى لقيادة هذا البلد الأمين تجاه رعاية كل ما يخدم أمة الإسلام.
الحج وما استثمر فيه من مشاريع يثبت عزم ورغبة قيادة وطننا الكريم من العطاء بدون تخاذل لما فيه راحة وسلامة الحجيج، والشاهد على تلك المشاريع العملاقة التي تحققت لهذا الهدف، فمشروع أكبر توسعة للحرم المكي الشريف، فجسر الجمرات، والقطار والخيام المطورة والطرق والنقل الترددي وكذلك تلطيف المناخ بالرذاذ كلها دلالة على مكانة الأماكن المقدسة وأهمية راحة وسلامة المسلمين كافة. وفي هذا السياق لا ننسى الدور الجبار الذي تقوم به قوى الأمن من المتابعة والتوجيه واستعمال أحدث التقنيات لتسهيل الحركة المرورية وإدارة الحشود. كذلك الخدمات الصحية المجانية على أعلى مستوى التي تقدمها وزارة الصحة في مستشفياتها سواءً في مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة، أو بالإضافة إلى مشاركة القطاعات الأخرى بمستشفياتها الميدانية كوزارة الدفاع ووزارة الداخلية والحرس الوطني، فكلها مسخرة لخدمة حجيج بيت الله العتيق.
هذه دولتنا وهذا شرف مكانتها بين الأمم، وهنا يجب أن نقدم كل ما نستطيع لما يقارب البليوني مسلم بناء على الميزة الفريدة التي وهبها المولى - عز وعلا - لبلادنا من بين بلدان العالم.
فالاستثمار في كل ما يتعلق بموسم الحج، هو الاستثمار المستدام كاستدامة هذا الموسم إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
كان لي ولمجموعة من الزملاء في عام 1425هـ عندما اختيرت مكة المكرمة عاصمة للثقافة الإسلامية شرف تقديم مشروع (الشميسي)، هذا المشروع الإسلامي الكبير الذي يعتمد أساسا على رسالة مكة أم القرى لكونها قبلة للعالمين. كان أساس اختيار منطقة الشميسي هو رسالة الملك عبدالله بن عبدالعزيز -يرحمه الله - عندما أخبرته عن زيارتي لمعرض الحرمين، وسألني: أين يقع؟ أجبته: أنه بجانب مقر كسوة الكعبة. قال: ومن سيراه هناك؟ إذا كان هذا المعرض يحكي تاريخ الحرمين الشريفين فيجب أن يراه المسلم وغير المسلم، ويجب أن يكون على أعلى مستوى، فهي رسالتنا للعالمين. لذلك كان اختيار منطقة الشميسي لتحمل رسالة المعرفة بجوانبها المتعددة، والشق الثقافي كان هو المحرك الأول لرسالتنا. مقترحنا بدأ بناء على التوجيه الكريم أنه يجب أن يقام أكبر متحف إسلامي على مشارف مكة ليزوره المسلم وغير المسلم. فاخترنا أن يكون المتحف على شكل قرص شمس وسطه ثلاثة معارض لمقتنيات تمثل مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف.
وينبعث من القرص ستة وخمسون إشعاعا، كل إشعاع يمثل دولة من دول منظمة التعاون الإسلامي. وكل مسار تتكفل بتصميمه الدولة المعنية بما يتماشى مع حضارتها وثقافتها وتزوده بالقطع الأثرية التي تحكي رسالتها. واقترح أن تُختار كل عام قطعة نادرة أو أكثر لتعرض لمدة سنة ثم تعاد إلى دولتها. وهكذا سنجد أنفسنا حققنا الأهم وهو أكبر متحف إسلامي بمقتنياته ومحتواه ورسالته وليس ببنائه وحجمه.
المتحف ورسالته هو ما أسس لمشروع المدينة المتكاملة على مشارف مكة المكرمة، هذه المدينة تتكون من أربع مدن:
1- الثقافية والترفيهية والإعلامية التي أساسها المتحف الإسلامي، وبجانبه مجمع الترفيه التعليمي الإسلامي على نمط «إبكوت سنتر» الذي يحكي قصص المخترعين المسلمين. كذلك مركز الحوار في الحديبية، حيث جرى أعظم حوار في تاريخنا الإسلامي، وبجواره أكبر مدينة إعلامية إسلامية، كما اقترحنا إقامة ثلاثة فنادق عالمية كل منها يحتوي على أكثر من ألف غرفة، وكل فندق بطراز إسلامي يمثل المغرب الإسلامي، والمشرق الإسلامي، والشمال الإسلامي حيث تنظم المؤتمرات ويحضرها المسلم وغير المسلم. وبالنسبة للمسلم فيمكنه تأدية الصلوات في المسجد الحرام، حيث المسافة بالنقل السريع تحت الأرض الذي جرى اقتراحه لا تتعدى السبع دقائق، إضافة إلى ذلك يقام أكبر معرض دائم مفتوح يحتوى على ممثلية لكل دولة إسلامية تعرض فيه ثقافتها وتقاليدها وفنونها، ويكمل ذلك إقامة عجلة دوارة تحتوي على ست وخمسين مركبة، كل منها مطعم يقدم وجبات لدولة إسلامية.
2- العلم والمعرفة، ويشمل إقامة كليات تعنى بالحج ومتطلباته، ومراكز للبحوث الصحية وإدارة الحشود وما إلى ذلك.
3- المدينة الرياضية وتكون أساسا لأكاديميات تخدم تطوير وتدريب جميع الرياضات، وتقدم منحا لجميع شباب العالم المسلم وغير المسلم، ويقام بها أكبر ملعب رياضي مغطى لمختلف المناسبات الرياضية.
4- مدينة التجارة البينية، وهي المغذي للمدينة المتكاملة، حيث يُعاد تطوير وتأهيل ميناء الليث أول ميناء إسلامي، ليكون أساسا لبناء أكبر منطقة حرة للعالم الإسلامي، وتبني مفهوم «صُنع بمكة»، كل هذا المشروع مبني على أساس رسالة المدينة المتكاملة:
«ارتباط بالأصل واتصال بالعصر»
هذا كان الأمل في رسالتنا إلى العالمين لتأسيس مشروع عماده الاستدامة، وجمع الكلمة، وتوحيد الأمة وتذكيرها أن هذه الميزة الفريدة التي خص بها المولى بلاد الحرمين الشريفين هي ما أعطى لقيادتنا الأحقية الشرعية مدعمة بالحقائق الواقعية في خدمة الحرمين الشريفين لتحمل بكل فخر وثقة واعتزاز مسمى (خادم الحرمين الشريفين).
وفق الله قيادتنا للأخذ بما فيه خدمة الحرمين الشريفين، وجمع كلمة المسلمين، وتوصيل رسالة المعرفة والتنمية في مشاريع مؤثرة متكاملة تؤمن الأمن والسلام والتكامل لمستقبل أمتنا الإسلامية، والدعوة لمفاهيم ومقاصد هذا الدين العظيم، وتبرز مكانتنا بين الأمم.
***
- فيصل بن عبدالله بن محمد آل سعود