إن الروايــــة المتوارثة التي تناقلها جيل عن الأجيال السابقة هي أن آدم وحواء لما هبطا من الجنة افترقا، وتاها في أرجاء الأرض، فمشى أبونا آدم وهو يبحث عن حواء ويناديها، ومشت أمنا حواء وهي تفتش عن آدم وتناديه، فكان لقاؤهما في قطعة من الأرض هي عَرَفَة.
في عَرَفَة عاش هنا أبونا آدم وأمنا حواء، ومن هنا بدأ التاريخ الإنساني على وجه الأرض المعمورة. فإذا في الدنيا أمكنة ولد فيها تاريخ قوم أو سجلت فيها بطولة أمة، عاشت فيها ذكرى شعب، وها هنا توفيت السيدة الأولى في الأرض أمنا حواء، ولكن تدل علينا الرواية الأخرى التي يحملها الخلف عن السلف بأن قبرها في جدة من أرض تهامة.
واليوم عرفات هو المكان الذي يجتمع الناس فيه على اختلاف ألسنتهم وألوانهم في صعيد واحد، لباسهم واحد، يتوجهون إلى رب واحد، ويدينون بدين واحد، ويصيحون بلسان واحد، «ليبك.. اللّهم لبيك.. هناك تتنفس الإنسانية التي خنقها البارود، وعلامات الحدود، وتحيا في عرفات، حيث لا كبير ولا صغير، لا عظيم ولا حقير، لا غني ولا فقير.
عرفات.. إنها لن ترى عين البشر مشهداً آخر مثله، هيهات ما في الدنيا لهذا المشهد العظيم، ولقد يجتمع في المعارض والألعاب الأولمبية واحتفالات في بلاد الغرب، حشود من الناس وحشود، ولكن لو شهد العالم هذا المشهد العظيم بنظر ثاقب لاقترح أن تجعله هيئة الأمم المتحدة عيدها الأكبر.
عرفات.. تشهد بهدم الفروق كلها، فروق الطبقات، وفروق الألوان والأجناس، هنا الناس كلهم أخوة، لا ميزة لأحد على أحد إلا بالعمل الصالح، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وإذا كان اللباس الرسمي لحفلات والمواقف الرسمية التي تضعها المنظمات والمعاهد على اتباعها، ولكن في هذا المكان اللباس الرسمي قطعتان من قماش فقط، لا خياطة فيه ولا أناقة، ولا يفترق في هذا المقام أكبر ملك عن أصغر شحاذ، أليس هذا المشهد عجيب..؟
عرفات.. هنا أعلنت حقوق الإنسان لأول مرة في التاريخ، يذكرنا اليوم الذي قام فيه سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات والتسليم في حجة الوداع وأعلن الحرية والمساواة وحرمة الدماء والمساكن ووصى بالنساء، هذا هو المقام الذي وقف فيه سيد العالم يعلن حقوق الإنسان ويقرر مبادئ السلام، وينشر الأخوة والعدالة والمساواة بين الناس.
هذا المشهد في كل سنة دليل قائم يملأ عيون البشر وأسماعهم على أن ما قرره محمد صلى الله عليه وسلم قد طبّق أكمل التطبيق، في عرفات تتجلّى عظمة الإسلام بكل جماله، الإسلام هو دين الحرية والمساواة، دين العلم والحضارة. بدأت الإنسانية مسيرتها الحضارية من هذا المقام، لأنه هو المنزل الأول للبشرية جمعاء.
**
* قسم اللغة العربية وآدابها/ جامعة عالية، كولكاتا - الهند