د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
كنتُ في يوم الأربعاء من كل أسبوع أنتظر مجلة أسبوعية كانت تصدر من وزارة الشؤون الإسلامية، وكان أخي خالد - وفقه الله - يأتي بها؛ إذ إن عمله كان في الوزارة قبل التحاقه بسلك التعليم، وكان مما يجعلني أتطلع لها أن شيخًا له مقال أسبوعي لا يتغير، كأنه يكتب خلاصة خطبة الجمعة التي يلقيها، وكانت صورته تعلو المقال، وكنتُ أقرأ شيئًا جديدًا لم أسمعه من خطيب أو أقرأه في مقال، فأعجب من حسن إيراده للآيات والأحاديث والآثار، وقد كنتُ حينها في المرحلة الثانوية، فحفظت اسمه (عبدالله بن صالح القصير) ورسخت صورته التي توشح بالمشلح فيها، تخرجتُ من المعهد العلمي في حوطة سدير، واستقرت قدمي في كلية الشريعة بالرياض، وما هي إلا مدة حتى أعلن عن محاضرة لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - ستعقد في الجامع الذي يؤمه صاحب المقال التوجيهي الجاذب، فسارعتُ إلى الجامع في الموعد، حتى كنتُ خلف الإمام تقريبًا، ثم جاء سماحة الشيخ - رحمه الله - ودخل من الباب الجنوبي لا الغربي؛ إذ العتبات من جهة المحراب كثيرة ومرتفعة، فيشق على سماحته صعودها، ومما أذكره هنا على ذكر دفع المشقة عن سماحته - رحمه الله - ما ذكره معالي الدكتور محمد الشويعر - غفر الله له - في كتابه عن سماحته أنه لما اشتكى من ألم رجليه وصار المشي يتعبه أمر الملك فهد - رحمه الله - بأن يخصص له مدخل خلف الصالة المعدة لجلوس الوجهاء والناس في الديوان الملكي حتى يدخل مباشرة ولا يمشي طويلاً من المدخل الرسمي.
كان الشيخ عبدالله القصير - رحمه الله - «خطيب الجامع وإمامه» في الاستقبال، ثم مرَّ سماحته - رحمه الله - من جواري متوجهاً إلى مكان الصلاة خلف الإمام.
أَبا المِسْكِ ذَا الوَجْهِ الَّذِي كُنْتُ تائِقاً
إِليهِ وَذَا الوقتُ الذي كُنْتُ راجِيا
وقد جُعلت المجمرة بين يدي سماحته، والطيب يفوح منها، وهو من أطيب الطيب الذي شممته إلى هذه اللحظة، فَطُيِّبَ المكان على طيبه حسًّا ومعنى، وقرت عيني برؤية سماحة شيخنا عبدالعزيز - رحمه الله - وطابت نفسي بالسلام عليه.
للناظرِينَ إِلَى إقْبَالِهِ فَرَحٌ
يزيلُ مَا بِجِباهِ القَوْمِ مِنْ غَضَنِ
أقيمت الصلاة فرأيتُ الشيخ عبدالله القصير يُلح على سماحته - رحمهما الله - أن يصلي بالناس ألح كثيرًا كثيرًا، ومما أذكره أنه قال له: يا سماحة الوالد الناس يتعلمون منكم السنة في أداء الصلاة، فلعلكم تتفضلون بالإمامة، فاعتذر، وقال: فيكم بركة.
يُدِلُّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كُلُّ فاخِرٍ
وَقَدْ جَمَعَ الرَّحْمنُ فِيْكَ المَعَانِيَا
وأذكر هنا لما حضر الشيخ العلامة محمد بن عثيمين - رحمه الله - لإلقاء محاضرة في الجامع نفسه بعد محاضرة سماحة الشيخ بمدة ألحَّ الشيخ عبدالله عليه أن يصلي بالناس فرفض الشيخ، فأصر الشيخ وأن في إمامته تعليم للسنة، فتقدم الشيخ محمد - رحمه الله - لإمامة الناس.
بعد رفض سماحة الشيخ عبدالعزيز أن يتقدم للصلاة صلَّى الشيخ عبد الله - رحمهما الله - ثم قدَّم لمحاضرة سماحته، ثم بدأ صاحب السماحة في الحديث، وكان عادته في التأكيد في مطلع محاضراته على التوحيد والسنة حتى انتهى من المحاضرة، ثم بدأ بالإجابة عن الأسئلة، وأذكر أن الشيخ عبدالله جعل أحد أولاده على ظني - وبعض الظن ليس بإثم - ممن لم يبلغ الخامسة والعشرين من عمره في عين الناظر يقرأ الأسئلة، ويظهر ظهورًا جلياً لمن حضر أنه قصد تعويده على مجالس العلماء والقراءة بين أيديهم، وابتدأ قارئ الأسئلة بقوله: فضيلة الشيخ، فلما طرح السؤال، قرَّب الشيخ عبدالله رأسه إليه وهمس في أذنه أن يقول «سماحة الوالد»، فلما جاء السؤال الذي يليه ابتدأ بقوله: سماحة الوالد.
يقولون ذِكْرُ المَرْءِ يَحْيَى بنَسْلِهِ
وليس له ذِكْرٌ إذا لم يكن نَسْلُ
فقلتُ لهم نَسْلي بدائعُ حِكْمَتي
فَإِن فاتنا نَسْلٌ فَإنَّا بها نَسْلو
انتهى اللقاء، وقد أولم الشيخ عبدالله عشاء على حضور سماحة الشيخ ودعا إليها جمعاً من الناس في صالة أفراح قريبة من الجامع، ولم أكن أعلم عنها! غير أني تبعت سيارة سماحته قليلاً، إذ هي على الطريق، فدخلتْ مواقف تلك الصالة! فتبعتُها، ونزل الشيخ فأوقفتُ سيارتي ونزلت، فإذا الدعوة عامة.
فلما استقر سماحته على كرسيه، طلب من يقرأ القرآن، فقرأ أحدهم ثم علَّق - رحمه الله - على الآيات ووجَّه نصيحته للحضور ثم جاءت الأسئلة، ثم دعينا للعشاء، فكنت أمشي بجوار سماحته وتسابق بعض الحضور إلى المائدة التي حول مكان الشيخ، جلس الشيخ فتعديتُ إلى المائدة المجاورة كسبتُ المشي القليل مع سماحته وما سمعته منه، وفاتني الجلوس معه على المائدة ظنًّا أني سأجد مكانًا أو على الأقل ألا يُسبق سماحته لكن الكل حريص على الجلوس بقرب شيخ الجميع - رحمه الله-.
يَزدحمُ الناسَ على بَابِه
والمنهلُ العذب كَثيرُ الزحام
وكأني بسماحته يقول: أين الشيخ عبدالله؟ فيجبه قريب يا سماحة الوالد.
تعرفتُ على الشيخ عبدالله القصير - رحمه الله - وحرصت على لقياه في مناسبات مختلفة؛ لما رأيت من توقير مشايخنا الكبار له وثقتهم فيه، وما ذاك إلا لفضله وعقله وعلمه، أذكر مرة كان هناك محاضرة لشيخنا عبدالله بن غديان - رحمه الله - ومن ضمن الحضور الشيخ عبد الله القصير، وكان من المعروف عن شيخنا الغديان أنه هو الذي يتولى الأسئلة قراءة، وقد قال لي: إني أحتاط، لذا أتولى قراءة الأسئلة بنفسي، فكثير من الأسئلة لا تخص السائل ولا تعنيه، وربما كان طرحه وسؤاله مثيرًا للكلام والقيل والقال!
ذكَّرني فعل شيخنا بما جاء عن هشام بن عروة بن الزبير - رحمهما الله - قال: ما سمعت أبي، يقول، في شيء قط برأيه قال: وربما سئل عن الشيء فيقول: «هذا من خالص السلطان».
وهذا تنبيه عملي لطلاب العلم بأن العالم لابد أن يكون مدركاً لمرامي الأمور، وما وراء السطور، وألا يكون مغفلاً يستخف به بعض الناس، فكم من سؤال جرَّ نقص عقل المجيب من ويلات وأوقع في جهالات، فبعض السائلين لا يجاب بل يُعرض عن سؤاله إما لمصلحته أو مصلحة عامة أو دفع مفسدة، ومن لطيف ما يُذكر من مراعاة العالم حال تلاميذه فضلاً عن غيرهم أن مالك بن أنس وعبد العزيز بن أبي سلمة ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى ابن هُرمز، فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابهما، وإذا سأله ابنُ دينار وذووه لا يجيبهم، فتعرَّض له ابن دينار يومًا فقال له: يا أبا بكر لِمَ تَستحِلُّ منّي ما لا يحلُّ لك؟ قال له: يا ابنَ أخي، وما ذاك؟ قال: يسألك مالك وعبد العزيز فتُجِيبهما، وأسألك أنا وذَوِيَّ فلا تُجيبنا! فقال: أوَقعَ ذلك يا ابنَ أخي في قلبك؟ قال: نعم، قال: إنّي قد كبِرتْ سِنّي ودَقَّ عظْمي، وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثلُ الذي خالطني في بدني، ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان، إذا سمعا منّي حقًّا قَبِلاه، وإن سمعا خطأً تركاه، وأنت وذووك ما أجبتُكم به قبلتموه!
هكذا تكون التربية والتعليم والخوف من الله، وهذا هو العقل الراجح الذي يحسن من كل متصدر للناس، والتوفيق بيد الله، والموفق من وفقه الله.
حضرت محاضرة الشيخ عبدالله بن غديان - رحمه الله - وكان بجواره على الطاولة إمام الجامع والشيخ عبدالله القصير وكان يفرز الأسئلة، فلما انتهى الشيخ عبدالله من المحاضرة قام الإمام بشكر الشيخ عبدالله واستأذنه في قراءة الأسئلة، فقال الشيخ الغديان: اعطني إياها! فالتفت الإمام إلى الشيخ القصير، ونظر الشيخ القصير إلى الشيخ الغديان، وفهم الشيخ عبدالله الغديان مباشرة أن الشيخ عبدالله القصير فرز الأسئلة، وتبادلا النظر للحظات، فقال الشيخ عبدالله: ما دام الشيخ عبدالله نظر فيها، واختار ما يصلح أن يطرح، فتفضل، فبدأ الإمام بقراءة الأسئلة، ورأيت الشيخ عبدالله القصير يبتسم مطرقًا رأسه.
ذهبتُ بشيخنا الزاهد سعد الحصين - رحمه الله - لزيارة الشيخ عبدالله القصير في منزله إذ قد ألمَّ به عارض صحي، فجلس الشيخ سعد بجواره، قائلاً: يا شيخ عبدالله ما أنسى كلام والدتي عن برنامجك الإذاعي إذ كانت تقول: (كلام هالشيخ يَنْقط في القلب)، فلعلك تستمر في مثله ولا تنقطع.
يُنظِّمُ اللُّؤلؤَ المَنثورَ مَنطِقه
ويَنثرُ الدُرَّ بالأقلامِ في الكُتبِ
قال الشيخ عبدالله للشيخ سعد: لقد طُبع كتابي «المفيد على كتاب التوحيد» ومدَّ إلينا نسخاً منه، وقال: إن سماحة المفتي يقول عنه: هذا من أفضل الشروح على كتاب المجدد.
لما بلغ الشيخ عبدالله القصير - رحمه الله - حصولي على شهادة الدكتوراه، بادر بالاتصال والدعاء، وقال: إن شيخنا الشيخ عبدالرزاق عفيفي - رحمه الله - يقول: هذه الشهادات كالعصى في الجُبَّة، قد تحتاج لإخراجها منها في بعض الأوقات والأحيان، فلا يكسل عن أخذها في هذا الزمان خاصة.
وقال: إن الشيخ عبدالرزاق كان يوصينا بمواصلة الدارسة وعدم الرغبة عنها فضلاً عن المواصلة في طلب العلم.
وَلَمْ أَجِدِ الْإِنْسَانَ إِلَّا ابْنَ سَعْيِهِ
فَمَنْ كَانَ أَسْعَى كَانَ بِالْمَجْدِ أَجْدَرَا
فَلَمْ يَتَأَخَّرْ مَنْ أَرَادَ تَقَدُّمًا
وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مَنْ أَرَادَ تَأَخُّرَا
كنتُ أسمع أن سماحة شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - إذا صار اجتماع هيئة كبار العلماء في الرياض دعا الشيخ عبدالله القصير - رحمه الله - فإذا ألقى سماحته كلمة، طلب من بعض المشايخ أن يلقوا كلمة، فربما ألقوا وربما اعتذروا، ويختم بطلب كلمة من الشيخ عبدالله القصير - رحمه الله - فيلقي كلمة، فكنتُ أقول ماذا سيقول لهؤلاء العلماء وهم مشايخه أو في طبقة مشايخه؟!
كان الشيخ عبدالله - رحمه الله - قد ملئ عقلاً ورأيًا ونظرًا، صلى مرة مع أحد الشباب، وكان وقتها خلاف واختلاف في قنوت النوازل، وهل يشترط لها إذن ولي الأمر؟
وكانت ثمة نازلة ببعض بلاد المسلمين فأفتى بالقنوت أحد العلماء الكبار من علماء السنة لا من الحركيين أو ممن لبَّس عليه الحزبيون ما لبَّسوا، فصار بعض أئمة المساجد يقنت وبعضهم لا يقنت، فقنت ذلك الشاب فلما انتهى رأى الشيخ عبدالله خلفه، فانتهز الفرصة ليسأله عن الأمر ورأيه، فقال له الشيخ: من الذي أذن لك بالقنوت؟ فقال: العالم فلان، فقال له الشيخ: وهل هو مرجعك الذي جعل ولي الأمر موضوع المساجد عنده؟ وما يرتبط بها؟ فقال: لا، فقال: رأيي أن تنتظر حتى يكون الإذن ممن جعلت له الصلاحية، وأكثر في السجود وفي أوقات الإجابة من الدعاء للمسلمين.
أَرَاكَ تَزِيْدُ فِي عَيْنِي وَقَلْبِي
إِذَا نَقَصَتْ مَوَازِيْنُ الرِّجَالِ
كان - رحمه الله - لماحاً، حسن التعامل، لطيف المأخذ والخُلُق، دخل مرة على سماحة شيخنا الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله - في منزله، وكان الشيخ قد وضع الغترة تخففاً، فلما دخل الشيخ عبدالله ورأى الشيخ صالحاً هكذا بادر بخلع غترته ورماها بجواره، وجلس بجوار شيخه يحادثه ويلاطفه ويسأله، كان الشيخ عبدالله محبًّا لشيخه، عارفاً فضله، يشاوره ويأخذ برأيه، وكان إلى قبل وفاته يقول: نفعني الله بالشيخ صالح.
مرَّت على الشيخ عبدالله القصير - رحمه الله - أحداث وأحداث، وقد كان ممن كلَّفه سماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله - بموضوع الإصلاح بين قادة الأفغان حينها.
ومرة اطلعت على كتابة خطها الشيخ بيده إلى أحد المسؤولين ممن كلفه ولي الأمر بعمل فكانت مليئة بالنصيحة والشفقة والدعاء، وأن يجعل هذا التكليف تقرباً إلى الله، وسعياً إلى مرضاته، وخدمة عباده، وأن يعتبر أن الحياة لن تقف عنده، وأنها ذاهبة عنه كما ذهبت عن غيره، وأنه على قدر المسؤولية المناطة به؛ إذ وثق به ولاة الأمر وأسندوا إليه هذه الأمانة، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله.
أحرف وددتُ لو اطلع عليها كل مسؤول، وكل من أنيط به عمل، أسأل الله أن يجعل نصائحه الظاهرة والخفية في ميزان حسناته.
جال - غفر الله - له وصال في الدعوة إلى الله، حدد أهدافه وقلَّلها، وعرف كبير نفعها، فرابط في أراضيها، فلزم تعليم التوحيد، وتبصير الناس بالسنة، والتحذير من البدعة وأهلها، لزم مسجده، واستقر فيه، وواظب على درسه، حتى التف حوله الطلبة، وقصدوه من خارج البلاد، كما قال أبو بكر بن عياش - رحمه الله - : كل من جَلَسَ، جَلَسَ إليه الناس، وصاحب السنة إذا مات أحيا الله ذكره، والمبتدع لا يذكر.
فَأَنْتُمْ عَلَى أَكْبَادِ قَوْمٍ حَرَارَةٌ
وَبَرْدٌ عَلَى أَكْبَادِنَا وَسَلَامُ
ألف المؤلفات النافعة، أذكر مرة ضاق عليَّ الوقت ولم انتبه وقد قرب موعد المحاضرة التي عنوانها (الإيمان بالملائكة)، فأخذتُ كتاب الشيخ عن أركان الإيمان، وجعلته العمدة في تحضير تلك المحاضرة.
ولد الشيخ - رحمه الله - عام1370، ودرس في المعهد العلمي في بريدة، ثم في كلية الشريعة في الرياض وتخرج فيها عام 1396هـ.
وفي اليوم الثالث من شهر رمضان لهذا العام (1445) توفي الشيخ، وصلي عليه من عصر الغد ودفن في مقبرة شمال الرياض.
فرحم الله الشيخ الجليل عبد الله القصير ورفع منزلته، وجعل ما أصابه كفارة له، وأخلف على أهله وولده وطلابه والمسلمين خيرًا و(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).
**
- أستاذ الفقه المقارن في المعهد العالي للقضاء