اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
المملكة العربية السعودية، هذا الوطن العزيز الغالي، الذي ليس مثله في الدنيا وطن، قد خصَّه الله عزَّ وجلَّ بما لم يخص به غيره من بلدان الدنيا الواسعة الشاسعة؛ إذ جعل فيه أول بيت وُضِعَ للناس لتوحيد الله وعبادته، كما اصطفى منه آخر أنبيائه ورسله للناس كافة رحمة للعالمين. فأصبح وطننا هذا مهبطاً للوحي، منبعاً للرسالة وقبلة للمسلمين حيثما كانوا في مشارق الأرض ومغاربها، ارتضاها رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، يولون وجوههم شطره كلما قاموا بين يدي الله لصلاة فريضة أو نافلة.
وبجانب هذا أيضاً، خصَّ الله سبحانه وتعالى بلادنا الطيبة المباركة هذه، بموقع القلب من الجسد، إذ جعلها مركز العالم، مما أكسبها أهمية خاصة وميزة فريدة في النشاط اللوجستي بين أهم ثلاث قارات في العالم: آسيا، إفريقيا وأوروبا. ولم تكن حكومة خادم الحرمين الشريفين، سيدي الوالد المكرم، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وولي عهده القوي بالله الأمين، أخي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، رئيس مجلس الوزراء، حفظهما الله ورعاهما، وسدّد على طريق الخير خطاهما، لم تكن لتغفل هذه الميزة الفريدة، فأولت هذا الموقع الإستراتيجي لبلادنا ما يستحق من عناية لاستثماره، حتى يصبح رافداً مهماً لاقتصادنا المزدهر.
يضاف إلى هذا كله، ما أودعه المنعم الوهاب جوف أرضنا الطيبة المباركة من معادن ثمينة كالذهب بنوعيه (الأصفر والأسود)، الفوسفات والنحاس وغيرها من ثروات طبيعية مهمة.. كل هذا من فضل الله علينا، ولطفه بنا، ورحمته لنا.
وصحيح، نعم الله سبحانه وتعالى علينا لا تُعَدُّ ولا تحصى، ولهذا مهما أثنينا على ربنا وشكرناه وحمدناه، لن نوفيه حقَّه علينا جلَّ في علاه؛ غير أن أعظم تلك النعم الوفيرة الغزيرة كما أسلفت، هذه الأسرة الحاكمة التي حمل أفرادها أرواحهم في أكفهم منذ عهد التأسيس الأول (1139هـ-1727م) جيلاً بعد جيل حتى يومنا هذا، في هذا العهد الميمون الزاهر، الذي أصبحت فيه السعودية، بتوفيق الله ثم بحرص قادتها الكرام البررة، وتجردهم ونكرانهم لذاتهم، والتفاف شعبهم حولهم، شجرة طيبة مباركة، تؤتي أُكلها كل حين ثمراً طيباً شهياً مباركاً، بعد أن أثمرت كثير من برامج رؤيتنا (2030) الطموحة الذكية، التي هندسها ولي عهدنا القوي بالله الأمين؛ إذ تنوَّع اقتصادها بعد أن كان اقتصاداً ريعياً يعتمد على البترول بالدرجة الأولى، ليبلغ ناتجنا القومي عند اكتمال برامج الرؤية (6,500) مليار ريال سعودي؛ تحقيقاً لأهم أهداف الرؤية: مجتمع حيوي واقتصاد مزدهر.
وهكذا تحوَّلت بلادنا الطيبة المباركة، يد الخير الطولى في العالم، إلى ورشة عمل كبيرة ضخمة للعمل والإنجاز والإبداع، كما أكد ولي أمرنا الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، تشهد كل يوم توفير بيئة ملائمة للنمو، واستحداث فرص عمل جديدة للمواطنين، لاسيَّما الشباب والفتيات، ورعاية المواهب من الجنسين، وتنمية الاستثمارات في جميع المجالات، في سائر ربوع بلادنا الحبيبة على اتساع رقعتها، حتى غدا لدينا صندوقان سياديان من أكبر الصناديق السيادية في العالم وأفضلها.
هذا في عجالة سريعة فيما يتعلق بالاقتصاد. أما في السياسة، فقد صار قادة بلادنا من أهم أهل العقد والحل لمشاكل العالم كله من أقصاه إلى أدناه؛ ولهذا تشد الرحال إلى عاصمتنا الرياض، عاصمة الرجال والنضال صباح مساء، طلباً للدعم والمساعدة والرأي السديد، لما لقادتنا الكرام من قبول لدى سائر زعماء العالم، كبيرهم قبل صغيرهم، وأيضاً لما لبلادنا من مكانة في نفس الجميع، إذ وفد إليها اليوم مواطنون من أكثر من مائة دولة في العالم من كل قارات الدنيا، بحثاً عن الأمن والأمان والاطمئنان والاستقرار، قبل كسرة الخبز، وهكذا أخالها أحياناً قارة كبيرة شاسعة، تستوعب قارات الدنيا كلها في حضنها الدافئ.
بالطبع هذا غير أولئك الذين يفدون إلى الحج والعمرة وزيارة المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة للسلام على خير خلق الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، إذ يناهز عدد الحجاج سنوياً الثلاثة ملايين حاج، فيما يتجاوز عدد المعتمرين الثلاثين مليون معتمر سنوياً وسط تنظيم وإدارة حشود أبهرت العالم. وقد ظهرت قدرة السعودية جلية للعيان، خاصة أثناء حج عام 1441هـ، عندما نظَّمت حجاً آمناً (سبعة نجوم) في الوقت الذي كان المرجفون يراهنون على عجز السعودية عن تحقيق مقاصد الشريعة بشكل آمن صحياً، نتيجة صعوبة الوفاء بمتطلبات الوقاية والتباعد الاجتماعي اللازم، ضماناً لسلامة الإنسان وحمايته من مهددات جائحة الكورونا التي تفشَّت في العالم كما النار في الهشيم، وتعذَّر احتواؤها حتى على الدول التي تدَّعي العظمة؛ مما أدى لإلغاء معظم الفعاليات في العالم، أو على الأقل تأجيلها وتقييدها وفق شروط محددة.
أقول: في تلك اللحظة التي كانت مزعجة بحق، أدهشت السعودية العالم بما اتخذته من إجراءات احترازية؛ فنظَّمت شعيرة الحج كالعادة في جوٍّ آمنٍ صحيٍّ معافىً، لم يشكل أدنى خطورة على الأمن الصحي العالمي، إذ لم يتم حتى تسجيل حالة إصابة واحدة فقط بجائحة الكورونا.
وصحيح، كان الحجاج كلهم آنئذٍ من الذين هم داخل المملكة من مواطنيها أو المقيمين على أراضيها، لكن مع هذا، لم تكن المهمة سهلة كما قد يبدو للبعض. ومع تلك الظروف القاسية المروعة التي أفزعت دول العالم كلها، حتى تلك التي ترى لنفسها عظمة لا تراها لغيرها، بذلت السعودية جهوداً استثنائية جبارة، أذهلت كل الهيئات الصحية العالمية ومراكز الأبحاث، لاسيَّما طبيب العالم (منظمة الصحة العالمية) الذي نصح الجميع بضرورة دراسة التجربة السعودية العريقة الناجحة في طب الحشود وإدارتها، للاستفادة منها في محاربة الأوبئة التي تنتشر بين الناس كانتشار النار في الهشيم.
هذا فيما يتعلق بجهود الدولة السعودية الفريدة المذهلة في الرعاية الصحية للحجاج والمعتمرين والزائرين، أما تعمير الحرمين الشريفين وتوسعتهما وتهيئتهما لضيوف الرحمن، ورعاية المشاعر المقدسة، فالحديث عنها يطول ويكاد لا يأذن بنهاية، بشهادة كل من أكرمه الله بتيسير فريضة الحج أو العمرة أو الزيارة، إذ أجمعوا كلهم، أعجميهم قبل عربيهم على أن رحلة الحج أصبحت، إضافة للعبادة وأداء الفريضة، سياحة (سبعة نجوم) محفورة في وجدانهم وذاكرتهم البعيدة إلى الأبد.
ولا غرو في ذلك، فرعاية الحرمين الشريفين وتأمينهما، والاهتمام بضيوف الرحمن وتذليل كل الصعاب أمامهم لأداء نسكهم في طمأنينة ويسر، هو أمر من صميم رسالة الدولة السعودية، لن تتساهل فيه أو تتهاون أبداً، ولن تسمح لأيٍّ كان بتعكير صفو الحجيج. وتحضرني هنا مقولة شهيرة للمؤسس الملك عبد العزيز آل سعود والد الجميع، يروق لي دائماً الاستشهاد بها في هذا الصدد: (نحن آل سعود، أصحاب رسالة، ولسنا سعاة لسلطة).
فلا عجب إن أصبحت بلادنا رائدة العالم الإسلامي وخيمة العرب الكبيرة ودوحتهم الظليلة التي يتفيؤون ظلالها الوارفة كلما أرهقت قواهم وطأة الحياة، لأن الكل عندها سواءٌ، إخوة أشقاء، تتألم لألمهم، وتفرح إن ضحكت الدنيا لهم، وتسعى حثيثاً لتوحيد كلمتهم وجمع صفهم، وحلحلت مشاكلهم؛ لاسيَّما الأشقاء في دول مجلس التعاون الخليجي، لما يجمع بيننا من قواسم مشتركة في كل شيء.
أكتب هذا اليوم وأنا أشاهد متأملاً في فخر واعتزاز، وشكر لله المنعم الوهاب، وفود الحجيج آتية من كل فجٍّ عميق زرافات ووحداناً، تحط رحالها في مطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة، فضلاً عمَّن يأتون عبر الموانئ البحرية، إضافة لأولئك الذين يسلكون الطرق البرية عبر دول الجوار الشقيقة، بعد أن أمنوا على أرواحهم وأنفسهم في بلادنا التي لم يعد الإنسان فيها يخشى غير الله، ثم لا يخاف حتى الذئب على غنمه.
أقول أكتب هذا وأنا تأسرني وفود الحجيج تلك، والأرض ترتج تحت أقدامهم من أصوات تلبيتهم التي تبلغ عنان السماء: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك. تحفهم رعاية الله، ثم اهتمام الدولة التي تحشد جيشاً كاملاً من عشرات الآلاف في مختلف التخصصات والمهن لخدمتهم وتذليل كل ما يعتري سبيلهم من صعاب، كما هو العهد بها دوماً.
أجل، لقد تيسر لنا هذا كله، وتحولت بلادنا عبر تاريخها المشرق العريق، من وادٍ غير ذي زرعٍ ولا ضرعٍ، إلى شجرة طيبة مباركة، أُكلها دائم وظلها، بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بحكمة قادتها ووفائهم لرسالتهم وإخلاصهم لشعبهم، وحرصهم على تحقيق رسالة الاستخلاف في الأرض. والتفاف شعبهم حولهم، وتمسكهم بدينهم الذي يعضون عليه بالنواجذ، واعتدادهم بقادتهم واعتزازهم ببلادهم التي شرَّفها الله بما لم يشرِّف به غيرها من بلاد الدنيا الواسعة، وتمتعهم بالأخلاق الفاضلة والصفات الكريمة، وإدراكهم لأهمية رسالة بلادهم في تعمير الأرض، امتثالاً لأمره عزَّ وجلَّ في الآية الثانية من سورة المائدة: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب).
وبالطبع لم تقتصر الدولة السعودية في توزيع تلك الثمار اليانعة الشهية على مواطنيها والمقيمين فيها فحسب، بل فاض خيرها ليصل كل محتاج في العالم حيثما كان. وأكثر من هذا: أسست السعودية لتحقيق هذه الغاية عام 2015م (مركز الملك سلمان للإغاثة والمساعدات الإنسانية) تحت رعاية ولي أمرنا واهتمامه الشخصي ومتابعته، بهدف توحيد مساهمات المساعدات الإنسانية والإغاثية التي تقدمها الدولة والجهات الأهلية أفراداً وجماعات، إضافة لتطوير شراكات مع المنظمات الدولية المعنية، ضماناً لتنظيم العمل الخيري، للوصول إلى أكبر عدد ممكن من المحتاجين حيثما كانوا في بلاد الله الواسعة، دونما أدنى تمييز بسبب دين أو عرق أو لون، أو حتى نهج سياسي.
والوعد أن تظل السعودية يد الخير الطولى في العالم إلى الأبد إن شاء الله، بتوفيق المنعم الوهاب، ثم بوفاء قادتها وإخلاصهم لرسالتهم، وحرص شعبها والتفافه حول قادته.. فللَّه درُّها من بلاد ليس مثلها في الدنيا وطن، كما أكد أخي الراحل الشاعر المجيد البدر، الذي إن غاب، سيبقى (مهندس الكلمة) خالداً في وجداننا جميعاً لدماثة خلقه، ورقيِّه، وروعة شعره، وصدق كلماته، وطيبة قلبه، وإخلاصه لعقيدته، ووفائه لقيادته، وعشقه لوطنه، وحبِّه للناس.. كل الناس، وأدبه الجم؛ إذ يقول رحمه الله وجعل الجنة مثواه في رائعته الشهيرة (فوق هام السحب) التي صدح بها فنان العرب عام 1987م أثناء افتتاح أستاد الملك فهد الدولي برياض الأمجاد والعز والفخر:
فوق هام السحب وإن كنتي ثري
فوق عالي الشهب يا أغلى ثرى
عزّك لقدام وأمجادك ورا
وإن حكى فيك حسادك ترى
ما درينا بهرج حسادك أبد
انتي ما مثلك بهالدنيا بلد
* * *
نستاهلك يا دارنا وحنا هلك
انتي سواد عيونا شعب وملك