د.أحمد بن عثمان التويجري
تعالت خلال الأيام الماضية أصوات نكراء ضد المملكة العربية السعودية، واستنكرت بجهالة مزاعم حول الوفيات في موسم حج هذا العام.
الغالبية العظمى من هؤلاء بسطاء وقعوا ضحية معلومات غير صحيحة، وهؤلاء لا لوم عليهم، والمتوقع أن تتغير مواقفهم عندما يطلعون على الحقائق من المصادر الموثوقة. ي المقابل كان هناك حاقدون ومغرضون تولوا اختلاق وترويج الأخبار المضللة غير الصحيحة بدوافع سياسية بحتة مستغلين وقوع عدد محدود من الوفيات بين الحجاج لتشويه سمعة المملكة والنيل منها ومن الجهود الاستثنائية التي تبذلها لخدمة حجاج بيت الله الحرام.
إن من الضروري توضيح حقيقة ما حصل ليس دفاعاً عن المملكة العربية السعودية، وإنما دفاعاً عن الحق والمصداقية وشرف الكلمة. كما أن من المهم وضع ما حدث في سياقه الصحيح في ضوء ما قدمته وتقدمه المملكة العربية السعودية من رعاية وخدمات للحجاج على مدى العقود الماضية.
عدد الوفيات لم يكن بالقدر الذي حاول المغرضون ترويجه، كما انه لم يكن بسبب تدني مستوى الخدمات المقدمة للحجاج، وإنما كان لأسباب أخرى يمكن إجمالها فيما يلي:
أولاً: إن معظم الوفيات إن لم يكن كلها كانت في أوساط الحجاج غير النظاميين، أي الذين لم يحصلوا على ترخيص نظامي بالحج لا من دولهم ولا من المملكة الدولة المضيفة، وقد أقدموا على أداء الحج من دون أن تتوافر لهم مساكن لا في مكة ولا في منى ولا في عرفات، كما لم تتوافر لهم وسائل نقل بين المشاعر، الأمر الذي أدى إلى تعرضهم للإرهاق المتواصل والجفاف الشديد لاضطرارهم إلى المشي مسافات طويلة، كما أدى إلى إصابتهم بضربات شمس شديدة لتعرضهم لأشعة الشمس الحارقة لمدد طويلة دون أي واق أو غطاء.
ثانياً: إن الغالبية العظمى من هذه الفئة من الحجاج هم أصلاً من الكبار في السن الذين لا يطيقون مشاق الحج إلا برعاية خاصة وفائقة وممن يعانون أمراضا مزمنة تتطلب إشرافاً طبياً دقيقاً، ولكون وضعهم غير نظاميّ فهم محرومون بإرادتهم وليس بتقصير الجهات المسؤولة من الرعاية الخاصة والإشراف الطبي وللأسف الشديد، حيث يتجنبون التواصل مع الجهات الرسمية المشرفة على الحج وأهمها الجهات الطبية خوفا وحذراً من انكشاف حقيقة كونهم حجاجاً غير نظاميين، الأمر الذي يحرمهم من تلقي الإسعافات والعلاجات الطبية في الوقت المناسب.
ثالثاً: إن كثيراً من الحجاج هم من قليلي الوعي وقليلي التعليم، وممن لا يدركون ما يجب عليهم الالتزام به للوقاية من الإجهاد والجفاف والتعرض لضربات الشمس فتجدهم يمشون مسافات طويلة دون شرب الماء أو السوائل التي تحول بينهم وبين التعرض للجفاف، كما تجدهم يعرضون أنفسهم لأشعة الشمس المباشرة لأوقات طويلة دون أي واق من أي نوع على الإطلاق.
رابعاً: لقد كان موسم حج هذا العام موسماً استثنائياً من حيث ارتفاع درجات الحرارة، فقد بلغت في بعض المواقع أكثر من ستين درجة مئوية، وكان أقل ما وصلت إليه خلال أيام الحج في منتصف النهار نحو 48 درجة مئوية. وهذه درجات حرارة عالية بكل المقاييس. وقد كنت شاهد عيان عندما تعرضت أوروبا وأمريكا خلال السنوات العشرين الماضية لارتفاعات في درجات الحرارة وكان أقصى ما بلغته 47 درجة مئوية ومع ذلك مات الآلاف وهم في منازلهم لم يتعرضوا لما يتعرض له الحجاج من إجهاد وإرهاق وضربات شمس.
خامساً: إن من المؤكد أنه ليس في المملكة العربية السعودية أحد على الإطلاق سواء من المسؤولين أم المواطنين ممن يدعي أن المملكة بلغت درجة الكمال فيما تقدمه من خدمات للحجاج، أو يدعي أن التقصير بين الحين والحين لا يقع، ولكن كل من لديه ذرة من تجرد وإنصاف يدرك أن ما تقوم به المملكة العربية السعودية من رعاية وعناية بالحجاج وما تقدمه لهم من خدمات استثنائية يفوق كل وصف وتعجز عن حصره الكلمات.
إن ما أنفقته المملكة العربية السعودية على عمارة وتوسعة الحرمين الشريفين على سبيل المثال يفوق بقدر كبير الميزانيات السنوية لمعظم الدول العربية والإسلامية. ولإعطاء فكرة مبسطة عن حجم هذا الإنفاق فإن مشروع تركيب مظلات لتظليل ساحات المسجد النبوي على سبيل المثال بلغت تكاليفه ما يقرب من خمسة مليارات ريال، كما أن التعويضات التي دفعتها المملكة لمن نزعت ملكياتهم لتوسعةٍ واحدةٍ من توسعات المسجد النبوي الكثيرة (التعويضات فحسب وليس تكاليف أعمال التوسعة) بلغت أكثر من سبعة وأربعين مليار ريال. فما بالك بتكاليف كل البنيات التحتية وكل الإنشاءات والتوسعات التي تمت على مدى العقود الثمانية الماضية في الحرمين ومناطق المشاعر المقدسة!
إن جميع أجهزة الدولة دون استثناء تستنفر كل عام وعلى مدى أشهر استعداداً لاستقبال حجاج بيت الله الحرام ورعايتهم، وفي عام 2023 على سبيل المثال بلغ عدد المشاركين من موظفي الدولة في أعمال الحج مائتين وسبعة وثمانين ألف موظف. وإن ما تقدمه وزارة الصحة وحدها من رعاية وخدمات طبية للحجاج خلال موسم الحج الواحد تفوق تكاليفه ميزانيات وزارات الصحة في معظم إن لم يكن كل الدول العربية. بل إن أعمال الصيانة والنظافة السنوية للمسجد الحرام وحده تفوق تكاليفها ميزانيات بعض الدول العربية والإسلامية.
لقد كان الحج على مدى قرون قبل العهد السعودي مجازفة كبيرة من يقدم عليها مفقود ومن يعود منها مولود. وقد أحسن أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله في وصف تلك الحال حين قال:
عَزَّ السَّبِيلُ إِلَى طَهَ وَتُرْبَتِهِ
فَمَنْ أَرَادَ سَبِيلًا فَالطَّرِيقُ دَمُ
مُحَمَّدٌ رُوِّعَتْ فِي الْقَبْرِ أَعْظُمُهُ
وَبَاتَ مُسْتَأْمَنًا فِي قَوْمِهِ الصَّنَمُ
قَدْ سَالَ بِالدَّمِ مِنْ ذِبْحٍ وَمِنْ بَشَرٍ
وَاحْمَرَّ فِيهِ الْحِمَى وَالْأَشْهُرُ الْحُرُمُ
وَفُزِّعَتْ فِي الْخُدُورِ السَّاعِيَاتُ لَهُ
الدَّاعِيَاتُ وَقُرْبُ اللهِ مُغْتَنَمُ
آبَتْ ثَكَالَى أَيَامَى بَعْدَمَا أُخِذَتْ
مِنْ حَوْلِهِنَّ النَّوَى وَالْأَيْنُقُ الرُّسُمُ
حُرِمْنَ أَنْوَارَ خَيْرِ الْخَلْقِ مِنْ كَثَبٍ
فَدَمْعُهُنَّ مِنَ الْحِرْمَانِ مُنْسَجِمُ
ومنذ قامت الدولة السعودية أصبح الحج بفضل الله وتوفيقه آمناً لا يخشى فيه الحجاج لا قاطع طريق ولا انقطاع سبيل ولا هلاكاً من ضياع وعطش، بل ولا مشقة حقيقية على الإطلاق. وإن مشاهد مئات الأولوف من الحجاج وهم يستقبلون بالورود والبخور والأهازيج في مطارات ومنافذ المملكة خير دليل على ما آلت إليه أمور الحج.
إن الذين اختلقوا الأكاذيب على المملكة بسبب وفاة عدد محدود من الحجاج غير النظاميين أعمى الله أبصارهم وبصائرهم عن رؤية مئات الآلاف من الحجاج الذي تلقوا علاجات ورعاية طبية تفوق بكثير كل ما كانوا يتلقونه في بلدانهم. وإن من دفعهم حقدهم إلى تضخيم حوادث قليلة واستثنائية وقعت لبعض الحجاج بسبب أخطائهم هم قبل أي أحد آخر، حال الحقد بينهم وبين النظر إلى ما يقرب من مليوني حاج أكملوا حجهم بيسر وراحة وصحة وسلامة وأمن وأمان. وقد قيل: إن الأشجار المثمرة هي التي تُرمى بالحجارة، وإن كل نعمة لا بد لها من حاسد، ورحم الله الحطيئة القائل:
أَقِلّوا عَلَيهِم لا أَبا لِأَبيكُمُ
مِنَ اللَومِ أَو سُدّوا المَكانَ الَّذي سَدّوا
والحمد لله من قبل ومن بعد.