د. عبدالله بن ثاني
نجح موسم الحج ولله الحمد، بعد أن بذلت المملكة العربية السعودية جهودا مثالية في إدارة الحشود المليونية في زمان محدد ومكان ضيق حتى أصبحت تجربة هذا الوطن دروسا عالمية في إدارة البشر مما أدى إلى أن تستعير مراكز البحوث هذه التجربة السعودية وتضرب بها أمثلة حية على فن إدارة الحشود.
وكان حقا على هذا الوطن الذي تفضل الله عليه بخدمة ضيوف الرحمن من الحجاج أن يحرص على كل السبل التي تمكن المسلم من أداء هذه الفريضة بكل يسر وسهولة، وعطفا عليه فقد تطورت كل الميادين والمشاعر والخدمات التي يشهد لها الجميع دون استثناء تلبية لهذه الفضيلة وتلك العمارة، ويلحظ المسلمون ولله الحمد في كل عام اختلافا إيجابيا عن السنة التي قبلها مما أضفى على روح الحجاج مزيدا من الطمأنينة والسكينة وأن المشاعر المقدسة في أيد أمينة حتى أطلق ملوكنا على أنفسهم خادم الحرمين الشريفين وتشرفوا وفاخروا بذلك، ومن أسس ذلك التنظيم المتفق عليه من جميع الدول الإسلامية التقيد بعدد حجاج الدول الإسلامية المبني على عدد السكان تمكينا للعدالة في التوزيع، وسن ما يسمى بالتصريح ضبطا للإعداد وتحقيقا للرفاهية وتمكينا للحاج من أداء نسكه على الوجه الأكمل دونما تعكير وإشغال، وكل مسلم ناصح يدرك ضرورة ذلك التصريح ويلمس مآلاته ونتائجه في هذه الأيام المعدودات كما سماها الله جل وعلا، ولكن من المؤسف له أن يكون هناك صوت نشاز مبني على تغييب المصلحة التي أينما كانت فثمة شرع الله جل وعلا ليقلل من أهمية التصريح وضبط الأمور بحق هذه الأعداد المليونية، ولا أدري أين عزب عنه عقله وهو لا يستحضر ما يجب على العالم والفقيه أن يستحضره في فتاواه وآرائه ومداخلاته التلفزيونية وتصريحاته المباشرة وهو بين أمرين لا ثالث لهما: إما أنه يعلم ولكن غلبت عليه حركيته وحزبيته ليفسد جهود هذا الوطن ومسؤوليه في خدمة حجاج بيته الكريم ويثير المسلمين قصدًا لتشويه ما لا يقبل التشويه وتحميل الأمر ما لا يحتمل، وإما أن يكون جهلًا بمقاصد الشريعة ومآلاتها، وهو في هذا الباب كان يجب عليه أن يسمع لمن هم أعلم منه وأحكم من علماء العالم الإسلامي الشرفاء...
لا أخفيكم صدمتي من حديث الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي الذي تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي قبيل الحج ليعطي ذريعة لمن لا يتقيد بالسمع والطاعة لتوجيهات الدولة، ومثله لا يجهل تلك المقاصد ولا تخفى عليه الأدلة الشرعية التي تؤكد على الحفاظ على حجاج بيت الله، وذلك من أوجب الواجبات على الدولة شرعًا وعرفًا وإنسانية، سمعت قوله بتوصيته بعدم الأخذ بالتصريح، ويوصي من استطاع أن يلتف عليه في صورة تجعله يتحمل شرعًا دماء من ماتوا من إخواننا المسلمين بسبب الحرارة الشديدة لأنهم لم يكونوا ضمن حملات رسمية تؤمن لهم السكن والوجبات والماء وغير ذلك مما يحتاجه الحاج ليكمل حجه بأمن وأمان وسلامة، لقد قال في جوابه عن حكم من اعتمر ولكنه يبقى في بلاد الحرمين حتى يؤدي فريضة الحج ويكون حجه بدون تصريح: «تصريح الحج محدث وليس واجبًا ولم ينزل به جبريل من عند الله تعالى، فالله أمر خليله إبراهيم أن يؤذن بالناس في الحج فقال: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}، ففرض الله الحج على المسلمين جميعا فقال: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}، وسبيلًا هنا منكرة معنى أي سبيل يوصل إلى ذلك ولو بالاحتيال ولو من دون أوراق وبأي وسيلة...» وهنا وقفات شرعية مع هذه الفتوى:
1- ما هذا المفهوم السقيم للمحدث، لأن كثيرًا من المستحدثات تقتضيها ضرورة الحياة وهي شرعية تنبع من خصائص الشريعة الإسلامية القادرة على مواءمة كل جديد ومستحدث انطلاقا من العلاقة بين الاجتهاد والتحديث، بل إن ذلك أصل من أصول التشريع في الإسلام الذي لم يغلق العقل الإنساني القادر على استنباط الأحكام العامة من الأدلة الشرعية بما فيها من سماع وقياس واستحسان وإجماع، وهذا الذي تميزت به الشريعة في تقديم الإسلام على أنه صالح لكل زمان ومكان بسبب فتح باب الاجتهاد على مصراعيه، ولم يقف أمام هذا إلا الجاهل المعلب الذي لا يصلح للإفتاء والقضاء والحديث عن النوازل وأحكامها والمستجدات الضرورية..
2- فالأصول العامة للشريعة والقواعد الفقهية الكلية تقرر دفع الضرر قبل وقوعه وبعد وقوعه، وتقديم درء المفسدة على جلب المصلحة، وتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، وكل هذه القواعد الفقهية أقرها الإسلام لحماية الضرورات الخمس (النفس، الدين، العرض، المال، العقل) وإذا تأملنا المصالح من التصريح نجدها متحققة مآلًا ومعتبرة شرعًا، وبخاصة أن حرمة دم المسلم أعظم عند الله من حرمة الكعبة بل زوال الدنيا أهون عند الله من قتل مسلم، فعن ابن عباس، قال: نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الكعبة، فقال: ما أعظمَكِ وأعظمَ حرمتَكِ! وللمؤمن أعظمُ حرمةً عند الله منك؛ إن الله حرم منكِ واحدة، وحرم من المؤمن ثلاثًا: دمه، وماله، وأن يظن به ظن السوء؛ رواه البيهقي في «شعب الإيمان»، وحسن إسناده الألباني. ونظَر ابن عمر يومًا إِلى الكعبة، فقال: «ما أَعظمك وأَعظم حرمتك! والْمؤمن أَعظم حرمة عند اللَّه منكِ»؛ رواه الترمذي بإسناد حسن. ونقلوا حديث «لَهَدْمُ الْكَعْبَةِ حَجَرًا حَجَرًا أَهْوَنُ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ»، إلا أن السخاوي قال في المقاصد الحسنة (ص/ 541)، لم أقف عليه بهذا اللفظ، ولكن في معناه ما عند الطبراني في الصغير عن أنس رفعه: من آذى مسلما بغير حق فكأنما هدم بيت اللَّه، ونحوه من غير واحد من الصحابة أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر إلى الكعبة فقال: لقد شرفك اللَّه وكرمك وعظمك، والمؤمن أعظم حرمة منك،.... ليس شيء أكرم على اللَّه من المؤمن... وعطفا على كل ذلك فإن التصريح كان صونًا لدماء الحجاج من التزاحم وحرارة الصيف وبرودة الشتاء، فكيف غاب عن الشيخ حسن الددو هذا..
3- حينما أقر ولي الأمر التصريح وهو من باب الطاعة في المعروف، فيجب شرعًا طاعته وتحرم مخالفته، وقد أوجب الشرع الإسلامي طاعة ولي الأمر فيما هو أكبر من ذلك التصريح وأشد، ولا أدل على ذلك من فعل امير المؤمنين عمر بن الخطاب من تعليق حد السرقة لا تعطيله، وفرق شاسع بين الوقف المؤقت لتطبيق الحد وتعطيله، وإن كان الددو يرى أن التصريح منع فغير صحيح لأنه لا يندرج تحت المنع ولا التعليق مع السماح للآخرين بتأدية المناسك فليس ثمة منع ولا تعليق في الحقيقة، فمن لم يستطع هذا العام فليس عليه إثم، إذ من رحمة الله وهو العالم بحال عباده أن قرن الحج بالقدرة والاستطاعة وإلا فلا، فالاستطاعة شرط أساسي من شروط السبيل إلى الحج «من استطاع إليه سبيلا» باتفاق الفقهاء، وفسروا السبيل الذي يوجب الحج بالزاد والراحلة في عدد من الأحاديث، والزاد والراحلة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم هما الاستطاعة وتختلف عما في زماننا هذا، والحكم يتغير بتغير الوسائل ويحمل عليها التصريح رفعًا للحرج والمشقة في التكليف، لأن شرط الراحلة في حق القادر على المشي ما تندفع به المشقة كما ورد في المغني 5-11، وكذلك إقرار التصريح من الاستطاعة التي تندفع بها المشقة، بل ردنا الشرع إلى العرف والعادة في مفهوم الاستطاعة، قال الإمام الشاطبي (الموافقات 1/ 259)» إن عدم اعتبار العوائد يؤدي إلى التكليف بما لا يطاق، وهو غير جائز أو غير واقع».
4- ذكر العلماء أن من الحقوق على ولي الأمر في الإسلام إقامة شعائر الإسلام كفروض الصلوات والجمع والجماعات والأذان والإقامة والخطابة والإمامة ومنه النظر في أمر الصيام والفطر وأهلته وحج البيت الحرام وعمرته، وقال الشيخ عبدالسلام البرجس في كتابه معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة 78: «ومنه الاعتناء بالأعياد وتيسير الحجيج من نواحي البلاد وإصلاح طرقها وأمنها في مسيرهم، وانتخاب من ينظر في أمورهم»، والتصريح من هذا الاعتناء حتى لا يتزاحموا وتراق دماؤهم وتضيع أموالهم إذ يستحيل أن تتحمل هذه البقعة المباركة المحدودة كل المسلمين في وقت واحد، وحينئذ لا بد من تنظيم وفودهم وتهيئة المناسك لهم.
5- الأصل عدم منع القاصدين بحج أو عمرة إلا أنه مما يستدل به على صحة اشتراط التصريح للحج والعمرة من قبل الجهات الرسمية التي رصدت الضرر الواقع من غير منع على وجه العموم، وعطفا عليه فإن اشتراط التصريح خلاف الأصل وهذا هو الاستحسان...
لقد ذكر علماء الحنفية الاستحسان بالنص والاستحسان بالإجماع والاستحسان بالضرورة والاستحسان بالقياس الخفي، وذكر المالكية الاستحسان بترك الدليل للعرف وترك مقتضى الدليل لإجماع أهل المدينة وترك مقتضى الدليل للمصلحة وترك مقتضى الدليل لرفع المشقة وإيثار التوسعة، وكل المقاصد الشرعية من اشتراط التصريح متحققة فيما سبق لرفع الحرج والمشقة في حقيقتها، وقد نص على ذلك بيان هيئة كبار العلماء وعلماء الإسلام وأهل الاجتهاد ومراكز الفتوى وتلقته الأمة بالقبول إدراكا منها للمصلحة المتحققة منه...
6- إن تغير الأحكام المبنية على العرف والعادة والمصلحة لا ينكر بتغير الزمان كما هو في القاعدة الفقهية والتي تؤكد القاعدة الأخرى «المشقة تجلب التيسير»، وعطفا عليه فإن الاستدلال بالاستحسان هو نظر في لوازم الأدلة ومآلاتها..
7- إن من نظر إلى شروط التصريح يجدها موضوعية إذ تنص على أنه لم يسبق له الحج خلال الأعوام الخمسة السابقة لكي يفسح المجال لمن لم يحج حجة الإسلام الذي هو أولى من غيره، كما أنه يلزمه إحضار عقد ارتباط مع مؤسسة لتوفر له السكن والزاد والمواصلات والخدمات الطبية وغير ذلك مما يحتاجه المسلم ضرورة كي لا يتضرر من ضربات الشمس ولا من زمهرير البرد ولا من العطش والجوع والإسعافات الصحية وقضاء الحوائج وغير ذلك مما هو ضرورة، ونص العلماء على جواز دفع الكراء لنقل الحجاج.. وكل ذلك يدرك العاقل أهميته في المشاعر المقدسة.
8- مما يستدل به للاستحسان ما ثبت في مصنف ابن أبي شيبة عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما قيدا زمن العمرة في أشهر الحج، وعاتب عمران بن سوادة رضي الله عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاحتج أمير المؤمنين بألا يهجر البيت فيما سواه، واشتراط التصريح للحج حفاظًا على حياة الحجاج أولى مما احتج به أمير المؤمنين عمر لأن حرمة دماء المسلمين عند الله أولى كما أشرت إلى ذلك سابقًا. كما أن القواعد الفقهية (المشقة تجلب التيسير، درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة) وكلها معتبرة شرعًا لأن المصلحة من اشتراط التصريح يحمي دماء الحجاج ويحقق مصالحهم التي تفسدها الفوضى وعدم التنظيم...
وأخيراً يخشى أي مسلم أن يحمله الله جل وعلا وزر هذه الأرواح المسلمة التي ماتت بسبب ضربات الشمس ممن لم يحمل التصريح الضروري لترتيب لوازم الحج ومناسكه وشعائره، وعليه ألا يخالف العلماء الذين وجدوا في اشتراط ولي الأمر مصلحة للحجاج بينة وتيسر على المسلمين لا يخفى، والله من وراء القصد.