فيصل بن عبد الله بن محمد آل سعود
في يوم عرفة اليوم العظيم، أعظم أيام السنة على صعيد عرفات حيث تجتمع فيه القلوب والأفئدة متوجهة إلى خالقها، طالبة الرحمة والعفو والمغفرة، توّج شيخنا ماهر المعيقلي خطبة يوم عرفة إلى جموع المسلمين في أنحاء المعمورة برسالة يرتقي بها ديننا الحنيف إلى العالمين، فلبّ مقاصد الشريعة وغاية أحكامها التي تحمل المصلحة للناس، كما أنها غاية الأحكام التي أنزلها الله سبحانه وتعالى، فكما قال الشاطبي يرحمه الله: «بأن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا وهي تحمل الحلول لدنيانا وآخرتنا».
مقاصد الشريعة الغراء: هي المعاني والأهداف الملحوظة للشرع في جميع أحكامها أو معظمها، وهي:
1- الدين. 2-العقل. 3-المال. 4-النفس. 5- النسل.
وكان محور رسالتنا في بناء استراتيجية المعرفة لبناء اقتصاد قائم على المعرفة، التي قامت بها «مجموعة الأغر» عام 2008م متضمنة خمسة عناوين رئيسة هي:
1- التعليم.
2- التدريب.
3- الاستثمار (رأس المال الجريء).
4- الاستقطاب (العقول الممكنة للتطوير والإبداع).
5- التقنية والبحث والتطوير.
التي ربطناها بمقاصد الشريعة:
كما طورنا مفهوم تكرار حرف «آي» بالإنجليزية ست مرات «Six i»s» وهو مستقى من الحرف الأول من المفردات الست: الاستثمار (estment). الإبداع (Innovation). البنى التحتية (Infrastructure). المعلومات (Information). المؤسسات (Institutions). الحوافز (Incentives). وهنا أضفنا كمجموعة القيمة السابعة (The Seventh) هي الإسلام (I Islam).
مقاصد الشريعة هي أساس الحلول التي بنينا عليها في (استراتيجية) المعرفة التي تنبع من عقيدتنا ورسالة ديننا الحنيف. وكان لي شرف المشاركة مع نخبة من أبناء وبنات الوطن بدعوة من مجموعة الأغر لتقديم استراتيجية المجتمع المعرفي إلى مقام خادم الحرمين الشريفين متبنيًا منهجية (الأغر) في صياغة هذه الاستراتيجية التي نسجها ما يقارب ثلاثمائة فرد آمنوا برسالتها كخير أمة أخرجت للناس، وبمقاصد شريعتهم التي ينبع منها بناء القوي الأمين. وقد شاركوا بفكرهم ووقتهم وإيمانهم بضرورة الأخذ بما وهبه الله للوطن الغالي من إمكانات ومكانة وقيادة مؤمنة بقدرات إنسانها وإعطائه الفرصة ليستغل تلك المزايا للإبداع والإثراء وليبتكر ما يمكنه من الوصول بإذن الله إلى الأهداف التي رسمها في تلك الاستراتيجية التي تعكس رؤية بناء المجتمع المعرفي القائم على الإنتاج والتنافسية العالمية بحلول عام 1444هـ، وكذلك لتحقيق رسالة تنمية مستدامة من خلال بناء ثروة بشرية مبدعة وبيئة تقنية وتحتية حديثة محفزة لتحسين مستوى المعيشة والرقي بالمجتمع السعودي على أسس التزامه بالشريعة ومكارم الأخلاق ممثلة (بالدين)، وتفعيل دور (العقل) تيمنًا بأول ما أنزل في محكم الكتاب (اقرأ)، وذلك بدعم وتطوير التعليم، وبناء وإعمار الأرض باستثمار (المال) في البنى التحتية للارتقاء بالثروة البشرية وتكريم (النفس) كقيمة فكرية لصيانة وحفظ المستقبل (النسل). والاستثمار في الأجيال القادمة، مدعومًا بإتقان الأعمال الصناعية والخدمية والفكرية، لأن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه لاستدامة خلافة الإنسان في الأرض وإعمارها والازدهار فكريًا وماديًا.
فليس هناك خاتمة أبلغ وأجزل وأكمل مما ذكر شيخنا الفاضل في خطبة يوم عرفة معرفاً بمقاصد الشريعة قائلاً:
وقد أكد الشارع الحكيم وجوب المحافظة على الضروريات الخمس التي اتفقت الشرائع على العناية بها، وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض، بل اعتبر الشرع أن التعدي عليها جريمة تكون سببًا للعقوبة ومن هنا كان الحفاظ على هذه الضروريات من أسباب دخول الجنان ورضا الرحمن ومن أسباب الاستقرار والسعادة والرقي والحضارة في الدنيا، وبفقدها تختل الحياة، ويكون الإخلال بها سببًا لعقوبة الآخرة، ولذا كان من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في الحج: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا.
فالدين ضرورة؛ إذ لا غنى للإنسان عن طاعة ربه وعبادته التي خُلق من أجلها، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُون} (56) سورة الذاريات.
وقال تعالى مقررًا ضرورة حفظ النفس ومحرمًا الاعتداء على الدماء {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِنَّا بالْحَقِّ} (33) سورة الإسراء.
كما قال سبحانه مقررًا ضرورة حفظ المال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِنَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} (29) سورة النساء.
وفي ضرورة حفظ العقل قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُنتَهُونَ} (9) سورة المائدة.
وجاءت نصوص الكتاب والسنة بالنهي عن الوقوع في أعراض الناس، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} (58) سورة الأحزاب.
وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (11-12) سورة الحجرات
ومما يكمل ذلك أن الوسائل لها أحكام المقاصد، وأن ما لا يتم المأمور إلا به فهو مأمور به وأن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فما أدى إلى حفظ مقاصد الشريعة من الوسائل فهو مأمور به شرعًا فإنه لما كانت المقاصد والمصالح الضرورية لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق مفضية إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها في أحكامها.
ومن هنا فعلى كل مؤمن أن يسعى إلى المحافظة على الضروريات الخمس ما يؤدي إلى سلامة الخلق واستقرار الحياة وانتشار الأمن وتمكن الناس من تحصيل مصالحهم الدينية والدنيوية، وعليه أن يتعاون مع غيره في ذلك تقرباً لله وطلباً لثوابه في الآخرة، وعلى كل مسلم عدم تمكين العابثين من محاولة التأثير في مقاصد الشرع، والمحافظة على هذه الضروريات.
وعلينا جميعًا كل بحسب مهمته وعمله ومركزه مسؤولية أن نربي النفوس وخصوصاً نفوس الناشئة على احترام هذه الضروريات ولئن كانت المحافظة على هذه الضروريات الخمس واجبةً في كل مكان وزمان، فإن وجوبها يتأكد في هذه المواطن الشريفة كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (25) سورة الحـج.
حفظ الله بلادنا، وحفظ قيادتها وإنسانها بلادنا التي شرفها المولى بخدمة الدين الحنيف، وخدمة ضيوف الرحمن، ومكننا من توصيل ونشر رسالة مقاصد الشريعة إلى العالمين.