عبد الله سليمان الطليان
اقتطفنا لكم من كتاب (نهاية النسيان) لمؤلفته الأمريكية (كيت إيكورن) أستاذ مساعد ورئيسة قسم الثقافة والإعلام بالكلية الجديدة بنيويورك جزءاً بسيطاً يتحدث عن فائدة النسيان.
تقول (كيت) يفهم النسيان الجماعي مثل الذاكرة الجماعية، عموماً باعتباره ظاهرة اجتماعية، بينما يوجد بالتأكيد العديد من الأسباب التي تجعل الناس ينسون على نحو جماعي، غير أن النسيان الجماعي يوصف دائماً بعبارات سلبية. وهذا ليس مفاجئاً، لأنه غالباً ما ينطوي على شكل من أشكال النسيان، يدعم تفويضاً سياسياً محدداً، مثل نسيان إرث الاستعمار أو العبودية، على النقيض من ذلك، غالباً ما يمثّل النسيان الفردي باعتباره عملية تعويضية من قبل الفلاسفة والمحللين النفسيين وعلماء النفس التجريبي.
في كتابه في علم الأنساب في الأخلاق On the Genealogy of Morality استنتج فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche أن النسيان قد يكون ببساطة مسألة إغلاق أبواب ونوافذ الوعي. فالمرء يحتاج - من وقت إلى آخر - إلى إغلاق وعيه، تماما مثلما يغلق باب الدراسة للتركيز على العمل: إغلاق أبواب الوعي ونوافذه فترة وعدم الانزعاج من الضوضاء والمعركة التي يعمل بها عالمنا السفلي من الأعضاء الصالحة للخدمة، بعضنا مع بعض، وبعضنا ضد بعض، قليل من السلام، قليل من وعي جديد لإفساح المجال لشيء جديد. وقبل كل شيء لأجل الوظائف، والموظفون أنبل للحكم والتنبؤ والتقدير المسبق..
(إن نظام كائننا الحي يعمل على طول خطوط الأوليغارشية، كما ترى) - هذا، كما قلت - هو فائدة النسيان النشط، مثل البواب أو الوصي على النظام العقلي والراحة والآداب، إذ يمكننا من خلاله أن ترى على الفور كيف تنعدم إمكانية وجود السعادة، والابتهاج، والأمل، والكبرياء، والفورية، من دون نسيان. إن نيتشه حازم بشأن الشخص الذي لا يستطيع النسيان، إذ يجرده من السعادة. والأمل والفورية. فالشخص الذي لا يستطيع أن ينسى لا يمكنه التعامل مع أي شيء. وعلى الرغم من ذلك يسترسل في قوله، مشيراً إلى تناقض غريب ومتأصل في البشرة بالضبط هذا الحيوان الذي ينسى بالضرورة، والذي يمثّل النسيان فيه فوق ويمثّل شكلاً من أشكال الصحة القوية، قد ربى في نفسه جهازا مضادا - ذاكرة - إن بمساعدتها يمكن تعليق النسيان في بعض الحالات. وبدلاً من رؤية النسيان شيئًا يهدد الذاكرة، يناشد نيتشه قراءة التفكير في سيناريو معاكس - سيناريو تهدد فيه الذاكرة الممارسة الضرورية والمرحب بها للنسيان، ويصر على أن «النسيان ليس مجرد قوة قصور ذاتي ساكنة vis inertiae، كما يعتقد الناس السطحيون، بل هو بالأخرى قدرة نشطة على القمع، وإيجابية بالمعنى الأقوى للكلمة».
منذ فترة نيتشه إلى الآن، طرحت قراءات تعويضية أخرى للنسيان من قبل مفكرين عبر تخصصات متعددة. إن ملاحظة سيغموند فرويد Sigmund Freud القائمة على فكرة أننا كثيراً ما ننسى أو نشوه الأحداث باعتبار ذلك طريقة من طرق التعامل مع تلك الأشياء التي نجدها غير محتملة أو مؤلمة هي على الأرجح القراءة التعويضية الأكثر شهرة للنسيان، لكنها بالتأكيد ليست المحاولة الوحيدة لإثبات الوظيفة المحتملة للنسيان. لقد لاحظ عالم النفس فريدريك بارتليت Frederic Bartlett، في عمله (التذكر) Remembering في العام 1932، أن النسيان قد يحمل (أهمية نفسية كبيرة).
وفي الآونة الأخيرة، أكدت مجموعة متزايدة من الأعمال فوائد النسيان؛ فلقد طور أيضا عالما الأعصاب مايكل أندرسون Michael Anderson وسيمون ها نسلماير Simon Hanslmayr مفهوم (النسيان المحفز) فهما يعتبران أن (الحفاظ على المشاعر الإيجابية أو التركيز، والإيمان بحالة معينة، والثقة، أو التفاؤل، قد يقتضي ضرورة تقليل إمكانية الوصول إلى التجارب التي تقوض تلك الحالات)، تماما كما فعل نيتشه الذي يقترح أن النسيان ضروري للحفاظ على بعض مظاهر السعادة والبهجة والأمل والفخر.
وعلى نحو مماثل، يلاحظ عالم النفس التجريبي بنجامين ستورم Benjamin Storm انه بقدر ما قد يبدو النسيان محبطا، فستكون أحسن حالاً بكثير بوجوده مقارنة بعدمه. وفي عصر الإعلام الرقمي، على الرغم من ذلك، هناك القدرة على «إغلاق أبواب الوعي ونوافذه فترة من الوقت التي كانت في السابق تحصيل حاصل، أصبحت الآن في خطر.
في القرن الحادي والعشرين حتى استعارة نيتشه تبني معنى مختلفا للغاية. فمن المرجح الآن، أن تستحضر كلمة نافذة»، في نهاية المطاف، النافذة على شاشة من الشاشات أكثر مما تستحضر السمة المعمارية التي لمح إليها في الأصل. لكن إغلاق النوافذ الموجودة على أجهزتنا يختلف اختلافاً كبيراً عن إغلاق النوافذ في منزلنا. إن إغلاق النوافذ وسحب الستائر يحجب عنا الرؤية، ولكنه يمنع أيضًا العالم من إمعان النظر. عندما تغلق نوافذ جهاز رقمي، لم يعد بإمكاننا رؤية ما هو موجود (على الإنترنت التي أغلقت، ولكن هذا الفعل لا يمنع الآخرين من التحديق أو إمعان النظر. بينما نأخذ قسطا من الراحة، يمكن للآخرين مراقبتنا والاستمرار في ذلك ويسجل حتى أوقات عدم نشاطنا.
تؤكد استعارة النافذة بجدارة الاختلاف الحاصل بين تجربة أن ننسى وأن نُنسى في العالم التناظري والرقمي. إذا كانت تجربتي أن تنسى وأن تُنسى متشابكتين ذات يوم، فلم يعد الأمر كذلك الآن؛ ففي العالم الرقمي، يمكننا إغلاق نوافذنا أو حتى تسجيل الخروج تماما من الشبكة. ولكن عند تسجيل الخروج – على الرغم من تقليص بصمتنا الرقمية البيانات التي نتركها وراءنا - تستمر ظلال بياناتنا المعلومات التي يولدها الآخرون عنا في التضاعف باختصار إن رغبة الفرد في النسيان إغلاق النوافذ، وحذف بياناته، وقطع الاتصال، وفك الارتباط ليس لها تأثير يذكر في نسيان الآخرين للمرء، لأن موضوع (صاحب) البيانات يظل نشطا حتى إن مكث الفرد الذي يرتبط به في سبات.
ويستمر موضوع البيانات لدينا في التوسع، ويكتسب الشهرة من دون علمنا يقلق محاولات تحقيق النسيان النشط» الذي اعتبره نيتشه ضرورياً جداً للصحة العقلية والاطمئنان على هذا الأساس، تقترح الباحثة القانونية أنطوانيت روفروي Antoinette Rouvroy أن ما قد نشهده الآن هو انعكاس جذري لصيغة نيتشه كل هذا يشير على وجه الخصوص، إلى إمكانية انعكاس العلاقة بين الذاكرة والنسيان: القدرة على النسيان المنقوشة بيولوجيا في الإنسان.
وهي حالة صحية قوية وفقاً لنيتشه، مما يفسح المجال (لملكة الذاكرة) غير البيولوجية بينما كافحت البشرية تاريخياً ضد حدود الذاكرة، مع النسيان السائدة على نحو الافتراضي، يبدو أننا الآن منخرطون في عملية تعكس من خلالها العلاقة بين النسيان والذاكرة، وعلى نحو افتراضي، ستسجل جميع المعلومات. الصوتية والمرتبة، والنصية) قريباً وتحفظ في شكل رقمي، وسيصح النسيان. الذي يتطلب المحو النشط للبيانات، استثناء وليس قاعدة».