عبدالمحسن بن علي المطلق
اللقاءات التي تُدار (مع بعض الحجاج) وتبث عبر الأثير، تأخذ بلبابك لحسن تعبير، حيث صادق مشاعرهم، حتى إن بعضهم لا يخفي ثناءه بل ودعاءه للقائمين على هذه المشاعر، لما يراه من تجهيزات بُلغ في سبيل توفيرها من الجُهد والمال ما لا يخفى حتى على من رمدت عيناه، وحسب بلادي عزاءً أن (الشكر) قليل وهذا ما أثبته القرآن!
.. المهم مما وراء هذه الأسطر التي أجوس بها خلجات ما يقطر من كلمات أتت من تلقائية، وكأن صاحبها قد صبب في أذاننا عسلاً..، إذ لم تلقَ من سابق إعداد، ولم تُصغ بتنميق، لأنها وبايجازٍ ليس عن ترتيب نُثرت، ولا بتجديل دُعمت، فأتى وقعها أكبر، على نحوٍ مقارب، وقد استجمع بعضهم.. بعضاً مما يحضره، فيما الدموع تكاد تُشرق منطقه، لِعظمة ما (أكرمه ربّه..) أن زار هذه البقاع المقدسة، وما أتم به الله عليه بهذا (الركن الجليل)، إتمام دينه، فوق وعد ينتظره أن»يعود كيوم ولدته أُمه».. فأي عطاء وأي ثمن يوازي عُشر هذا ولا عُشيراً وربي..
وحين أسوق دموع بعضهم لأن الحفيّ بالوقور إلا ويخفيها، فهذا أبوفراس.. والذي كأنه استشف من آية {إذ نادى ربه نداءً خفياً} (1) لينشىء/
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى
ونزفت دمعاً من خلائقها الكبرُ
إلا هنا...، وفي حضرة ما جعل الله كما في آية {الكعبة البيت الحرام} ماذا {قياماً للناس..} كل الأجناس، لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى، ثم إن ما هنا إلا كـ(صورة)مصغّرة لعرصات يوم القيامة، والقيامة.. أو من بين مرام اللفظة دلالاتها (2) يوم يقوم به الخلق للخالق..، فلا سباق هناك ولا فخر أو مجد يؤثر به أحد عن أحد إلا لأقربهم إليه (سبحانه) منزلة..
نعم ها هنا وبين زمزم والحطيم، وبيت الله يطوّقك وقبلة أهل الإسلام في شتى بقاع الدنيا يراها رأي العين (ليس بينه وبينها حجاب) بل هنّ سوى خطوات ليُلامسها، فأي مكان أكرم، وأي محلّ أعظم..بعد هذا يُرجى؟، فكيف يستطيع أن يخفي {ليشهدوا منافع لهم}؟، بينها الرفع إليه الشكوى من بلوى.. الدنيا وزخرفها الذي ماد به عمراً إلى أن فاق، وإلى هنا حضر وأُولى تلكم التفريط الصادر من قِبل النفس بحق المولى تعالى، فثم إسرافها وراء متاع الدنيا جمعاً وإمتاعاً.. إلخ لأن هنا - فقط- مواطن «سكب العبرات»، والآتي لو تطقّستها وجدت أغزرهن ملامسة أمل كان من قبل بعيداً، فتحقق..
واليوم.. وقت تبييض هذه المقالة، فـ(حتى من لم يتعجّل تلفاه قد حمل متاعه..)، وإلى بلاده قافلاً، فتذكرت نداء للفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه إذا فرغ من حجه نادى بالحجاج {يا أهل اليمن يمنكم ويا أهل الشام شامكم ويا أهل العراق عراقكم}..
وكذا تمم ابن باز -رحمه الله- في هذا: (والواجب المبادرة والمسارعة إلى الخروج بعد طواف الوداع..) نعم عاد، لكن -والحمد لله- ليس خاليا الوفاض، بل امتلأت منه الأركان، ومن قبل الجنان، كيف لا..؟ وقد وقف مستمطرا الدموع، بعد أن أمطر المنى بين يدي الجواد الأكرم..، وهو كما في الحديث (3)حين يرفع عبده إليه سائلاً.. من أن يردّهما، فهو يرجو ألا تبلغ به فحسب، بل وأن تُشبع ذاته في نهم ما يطلب، حتى وإن كان جليلاً، فما على الكريم من عزيز، القائل {ادعوني أستجب لكم} (4) ونحن «أهل السنّة» في يقيننا ألا دعوة إلا ولها نصيب على نحو مما جاء في قوله- صلى الله عليه وسلم-(ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخرها في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذاً نكثر؟ قال: الله أكثر) رواه أحمد والحاكم -رحمهما الله-، بل إن كانت في الأخرى ذخراً، فهي -للعلم- له خير عظيم، ومغنم عميم..
مقطع
وأُعيد ففي الإعادة إفادة.. وأنت تُشاهد بعضا من تلك اللقاءات مع حجاج قضوا مراميهم، وبدأ يشدّ أحدهم رحاله.. في وداعٍ لهذه البقاع المقدّسة، فإذا التلقائية تعلوان منطقه ومحيّاه -معاً- لتقف مشدوها كيف..
والذي يظهر منه أن أدواته التعبيرية لا تعدو كليمات يكررها وبالكاد يجمعها، إلا أن بين نبرات تلكم من قامت عنه بكل أغراضه، وباحت عما يكن فؤاده..
وأعني ألا تبحث في طيات تمتماته، وإن كانت لغته لا تعدو ذاك الأعرابي الذي اعتذر للنبي أنه لا يُحسن دندنته.. ومعاذ، فكان جوابه -صلى الله عليه وسلّم- (5).. (حولهما ندندن)..
فكفاه عن التباشير التي تشرق في محياه ونشواته بهذه الأماكن تُسابق المنطق وإن اختلّ!
وهنا، أيننا مما أخرج البخاري -رحمه الله-، عن مصعب بن سعد، قال: (رأى سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أن له فضلًا على من دونه، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم:- (هل تُنصَرون وتُرزَقون إلا بضعفائكم؟)، فهذه نحلة عساها الـ(أجمل)، أعني يوم تجد بساطة أولئك من أنابت حتى المشاعر، التي بطيّها قد بثّت بما تكنّه السرائر..
خلاف من عندها اعداد، فتسعى لسوق المترادفات تبتضع المزاد، بل تعمد لهذا، فالذي أذكر - بالمناسبة- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كره من «تكلّف السجع»!(6)
لأنها في حال المفاضلة فجزما التلقائية أوقع، وللذائقة أمتع، لما للبساطة من الصدق..
ألا فقل وبأريحيةً كل ما تشعر به، ولا تتكلّف، ولا أو لأحد سوى مولاك - سبحانه- تتزلّف وعندها دع فيما تترك للسامع جريا جرّاء ما تقول دون أن يختصم حول تلكم، ليرتع بدلائل ربما لم تُشنّف بها أُذناه من قبل، فما تمليه كافيه (7)، وفي كنف ما تذكر وافٍ عن دواخلك..
لقطة:
تلتقي بحاجٍ أو حاجة قد قارب الخمسين ليحكي لك أحدهما عن مشاعره وهو أول مرّة تحطّ به قدماه المشاعر المقدّسة!، فتقف مشدوها..من كمّية التعابير التي تعلوه، ما تردد بداخلك (.. يا سبحان الله كيف أكتنز كل هذا العمر تلكم).. مما أخذ من جربه لا يوازي أي موقف سابق مهما كان جميلاً من عمره، لتتأكد أن هنا فرحته الكبرى، فحسب أنه كـ(من أُوتي منطقاً عذباً)، بكليماتٍ يقطرن من فاهه كأنهن وهنّ من النفيس كسلاسل الذهب، ولا غرو.. فهو يحدّثك وكل ما حوله يملي عليه من المعاني الضافية، درجة تُرجّح لو التقيت به بغير هذا الموضع لأضاعت بوصلة تلك العذوبة الطريق، بل وستجزم أن الذي أملاه ليس من تلقائية وقعت، ولا لعفوية حدثت.. سوى أن اجتماع الزمان والمكان وحضور جماع المشاعر من قِبله جعلته يعدو «سحبان بن وائل..»(8)، ما كاد يسلب بها لبابك، بالذات حين يقرّب لك كيف الذي تخيّله بالأمس أمسى حقيقة، فهو كمن في حلم ثم فاق..حين استبشرت عيناه واقعاً ما كان به من قبلُ عن بُعدٍ به يهيم ف هنا..ما لا يخفى على جليل علمكم يحطّ المسلم عن كاهله كل تعب صرفة دون هذه البقاع (المقدّسة).. التي يستشرف بها العبد كل ما يرجو وهو يستنزف الدموع ويلقي ما لديه، فينشد الآمال، ومعها الأماني العِذاب، نعم هنا فقط تُسكب العبرات - كما تقدم -، فليس دون هذه المفاوز من محلٍّ لخرط القتاد لمبلغه، وهنا طرّا تُذرف مياه العيون، بل أزيد(..ليس لعين لم يفض ماؤها..)عذرُ ثم كيف لا!، وهو يرى رأي العين ذاك الذي كان بالنسبة له (حلما)، حاضراً، فالتخيّل آن يكون حقيقة ماثلة، لا يعد أمامنا ما يخالج منّـا الظنونا ومن هذه أقول حُقّ على الطالب ألا يتواضع بالمطالب (9)، ولا تتنازل، وكما أرشد النبي- صلى الله عليه وسلم- (الفردوس الأعلى)(10)، وذلك لأنها تُرفع للقائل (كن فيكون)..(11) وذاك أن الكل - هنا - كما يُشاهد..مشغول بإعداد قائمة ما يتمناه، ولا ننسى بعض أحبّته ممن حمّله وصايا -من أدعية- مُخصصة نعم يقف الصدق على قدميه وينزوي الزيف وألوان التصنّع، وترك المثيلات مما ترجو من أمان صِرفة لشؤون دنياك، سمو بك الى مراقي العالم الأعلى فلا تقف تلك المشاعر على الحطيم ولا على البناء والرميم، بل على مشاهد عبّر القرآن عنها {.. ومقام إبراهيم}(12) فهي وكما أن الحج موعد الزمان موعد المكان ليجمعهما (ركن الإسلام)الخامس الذي من أتى به إلا وبإذن ربه قد تمم أركان دينه، فأوفى بما لربه عنده من عهد، أعني تحديداً ما جاء في سيّد الاستغفار (.. وأنا على عهدك ووعدك..)، وهذا وجه جليل لجلال الحجّ أن من قام بهذا الركن تلفاه يخجل أن يرجع القهقرا لمنوال ما كان أو يعود لسالف حال ضياع كان أو حتى تفريط، بل بعضهم يبكي إذا ما تذكّر ماضيا منه إلا حوى من التقصير ومع شيء من خلطة السفه، وتحديدا ما فرّط بجانب ربه، أو مما ندّ عنه- وللعلم كلنا ذاك -، وهذا ما يزيد من جُرعات الخوف من لدنه تلقاء ربّه، فيزيد ثقل أدائه هذا (الركن) من أواصر قدر ما قام به، عساه يكون ممن عاد (.. كيوم ولدته أمه) (13) فبربكم!، أي كرم من ربه قد حازه، وأي فوز قد ناله!؟ بل وكأنه «جدد» موثقاً مع ربه ألا يعود إلا بزيادة إيمان، وايمان تكاد تنطق بها جوارحه إبراما أن مضى ومع مبلغه هذه البقاع قد بلغ من العمر ما فيه مزدجر، و(حلّ..) وهو يحلّ إحرامه مختتماً نُسكه ألا رَاجعة..مما كان، أكان إهمالاً أم عبثا، أو إلماما بذنوب استخفّت بها ذاته الضعيفة!، أو نفسه الأمارة بالسوء.. (14) إلا ما شاء الله، ولطف به مولاه -1)كذا كان نداء سيدنا زكريا- عليه السلام - وقد اجتمع له الكِبر وعقم الزوجة ومما لا يخفى على معارفنا الإعلان عند المولى تعالى والإخفاء سيان إلا أن عليك بالإخفاء.. لأنّه للإخلاص أقرب 2)من المشتركات اللفظية، كما في آية (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ..) [الأحزاب:56]، فالصلاة من الله ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، والملائكة صلاتهم الدعاء، دعاؤهم للمصلى عليه، وترحمهم عليه، فيما صلاة أحدنا - نحن- على النبي تعني: أنت تدعو أن يُثني الله ثناءً جميلاً على النبي -صلى الله عليه وسلم-، ألا فتأمل ماذا سيقول عنك سبحانه في الملأ الأعلى وهو يثني عليك؟ 3) لما صح عند الترمذي -رحمه الله-(إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردّهما صفراً خائبتين) فأي كرم بعد هذا يا عبدالله يجعلك تتثاءب عن الدعاء؟4)ما أمرك أن تدعو إلا ليفيض عليك من عطائه، فعلام تبخل (أنت) على نفسك؟ وسيدنا عمر قال (أني لا أحمل هم الإجابة بل هم الدعاء)..
5) قال رسول الله لرجل كيف تقول في الصلاة؟ قال أتشهد وأقول اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة مُعاذ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلّم- (حولها ندندن) - الدندنة كلام يسمع نغمته ولا يُفهم - صحح الألباني -رحمه الله- 6)لما روى مسلم -رحمه الله- من قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه) وفي الرواية الأخرى (سجع كسجع الأعراب) فقال العلماء:
إنما ذم سجعه لوجهين: أحدهما: أنه عارض به حكم الشرع ورام إبطاله.
والثاني: أنه تكلفه في مخاطبته، وهذان الوجهان من السجع مذمومان- والأخير مقصدي- 7) و.. كم استطعمت لأحد الشعراء:
إن شئت تلفى جمع المحاسن ففي
وجه من تهوى جميع المحاسن
8).. الباهلي، وهو الصحابي رضي الله عنه ت54 هـ - كان بليغًا يُضرب به المثل في الفصاحة، فيقال: أفصح من سحبان وائل.
9) وأمعن بالآية(وقال ربكم ادعوني أستجب لكم)، فهذا يجمع دعاءي العبادة والمسألة 10) كذا هو ديدن ديننا.. في رفع لهمم أتباعه، ولا يرضى لهم غيرها 11) بالمناسبة فقد استنكر شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله- حذلقة بعض البلغاء(يا من أمره بين الكاف والنون)! - انظر في هامش 6- 12) وفي طيّ آيات باهرات ما يكفي، من مثل {جعل الله الكعبة البيت الحرام..) 13) لقول رسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (منْ حجَّ فَلَم يرْفُثْ، وَلَم يفْسُقْ، رجَع كَيَومِ ولَدتْهُ أُمُّهُ) متفقٌ عَلَيْهِ.
14) ونحن مدركون... {و ما أبرئ نفسي} لما؟، لأنها (.. أمّارة بالسوء) مما قيل (قبل أن تقدم على أي عمل، شاور كم من حكيم..، ودع رأيك بالأخير).