أ.د.عبد الله بن سليم الرشيد
ودّعتُ الجامعة في مُسْتَهَلّ رجب من سنة 1445هـ (13 كانون الثاني 2024م)، بعد نحو سبع وثلاثين سنة من القيد الوظيفي.
فيا لله ما أقصرَ الدنيا! وما أعجلَ الزمانَ! وما أوسعَ خُطاه! وما أبطأَ الإنسانَ عن اللَّحاق به وفهمه! لقد مرّ (كأني كنتُ أقطعه وَثْبا)!
ما زلتُ أذكر حفل التخرّج في عام 1407هـ (1987م)، وما فتئتْ ترنّ في أذنيّ كلمات المباركة والتهاني، وما انفكّت صورة الشابِّ النحيل الطامح الذي يجوب الشوارع، هاجمًا على (ديوان الخدمة المدنية)، ملقيًا أوراقه إلى (وزارة المعارف)، راغبًا في الإعادة في (جامعة الإمام)، ما انفكّت تتراءى كأنها وقعت أمسِ القريب.
ألقيتُ نظرةَ الوداع على مكتبي في الطابق الثاني، من كلية اللغة العربية بالرياض، ودّعتُ الذكريات، التي يعبَق بها الممرّ، وتلتصق بالمكاتب المجاورة، وتزدحم في بعض الزوايا.
لاح لي عبدالعزيز بن محمد الزير رحمه الله، وكان مكتبه على خطوات من مكتبي، وقفتُ أسلّم على طيفه، وترقرقت في مُوقَيَّ دمعتان ساخنتان، أبو سعود كان هنا، رأيته بعين الذكرى يتأبّط ملفَّه الذي لا يحضُر الاجتماعاتِ إلا مصطحِبًا إيّاه، ورأيتُني وأنا أقعد إليه، والكتب تحيط به، والملفّات تملأ الأرفُف، والأوراق التي تذكّره بما يحبّ ملصقةٌ على الجدار ... أيَّ رجل كان أبو سعود؟
وتذكّرتُ أولى الجلسات التي أدَرْتُها رئيسًا لقسم الأدب، قبل نحو عشرين سنة، كان على يميني وكيل القسم الأخ الصديق محمد القسومي، وعلى يساري أبو سعود الذي ما زال صوتُه الحميم يطنّ في أذني موجّهًا ومشجِّعًا، فقد كان في القسم أشياخُه الذين حلبوا الدهرَ أشطره، وجُلّهم أساتذة لي، محمد بن سعد بن حسين، وإبراهيم الفوزان وعبدالعزيز الفيصل وحمد الدخيّل وغيرهم، رحم الله من توفّي منهم، وأسعد من بقي، كنت أعرض على أعضاء القسم فكرةَ طريقةٍ جديدةٍ في مناقشة موضوعات طلاب الدراسات العليا، أردتُ بها الضبط والعدل، وكان أبو سعود متحمّسًا لها، مؤيِّدًا لها شديدَ التأييد.
ولما بُدئ بالنقاش، واحتدمت الآراء، وتكلم المعترضون، وكادوا يضعضعون جأْشي، ظلّ أبو سعود يغمز يدي، ويهمس (اجمد.. اجمد)! نضّر الله وجهك يا أبا سعود، يا رجلَ الشمس، الذي لم يسترسل في متاع الدنيا، ولم يركض طلبًا للأضواء، و(لا يطلبُ الأضواءَ إلا مظلمُ)! الرجل الذي كان آيةً في النقاء وعذوبة الروح، وغايةً في التنظيم والترتيب ودقّة النظر، فغبّر على من أراد اللَّحاقَ به.
أرأيتَ الضوء الذي ينسابُ فلا يمنّ ولا يتحدّثُ عن نفسه ومكرُمته؟ ذلك عبدالعزيز الزير.
أرأيتَ قطرةَ المطر التي تقع على اليَباس، فيهتزّ ويربو ويُنبِت من كلِّ زوج بهيج؟ ألم يبلغك أنها أختُ عبدالعزيز الزير من الأب والأمّ؟
ويزيدُني أسًى على أبي سعود أن علمَه وفِكَره المتجلية، وطريقته في التدريس والمناقشة، ذهبت أدراجَ النسيان، ولو دُوِّنتْ لغَدَتْ زادًا أيَّ زاد، وقد كان -لشدّة مثاليّته وتواضعه العجيب وإنكاره الأعجب لنفسه- لا ينشر بحوثًا، ولا يطلب ترقّيًا في الرتب العلمية، ويأبى المشاركة في مناقشات الرسائل. يا أبا سعود، لقد بعثرني غيابُك، وتعثّر عَشِيّي بسحَري، وكدت أقول: لا خير في العيش بعدك.
اثنان رجّني غيابُهما رجًّا عنيفًا، وبلبَلَ هاجسي، وغمرني بعدهما فيَضانٌ من الأسى، الأول ابن عمي عبدالعزيز بن سُليمان الرُّشَيْد الذي مات غِيلةً في فَجْعةٍ فاجعة، ما زالت حتى اليوم تُقرِحُ قلوبًا أحبّته. قُتِل وهو في عنفوان شبيبته وغَرارته، حديث عهد بالزواج والوظيفة، وكان ينتظر ابنته الجنين.
والآخر عبدالعزيز الزير الذي مات أصحَّ ما كان، كنتُ معه في الكلية، نتحدث ونضحك، وكنتُ أستمع إليه يتدفّق أدبًا وعلمًا وذوقًا، وما هو إلا يومٌ أو بعض يوم، حتى قيل: (أحسن الله عزاءك في أبي سعود)!
رثيت الأول بقصيدتين، أنشأت الأولى بعد وفاته بنحو سنة، ومطلعها:
ذكرتُك فانطويتُ على جراحي
وقام دُجاي يهزأُ من صباحي
وأنشأتُ الأخرى بعد ثلاثين سنة، بعد أن زرت مقبرة (العَود) التي دُفن فيها، ومنها:
أخي نادمتُ فيك دمي ودمعي
وسُقتُ إليك أحزانَ الليالي
وها قد جئتُ قبرَك لستُ أدري
وأهرقتُ الصُّبابةَ من صوابي
وأشجاني المعبّأةَ الخوابي
أيُجدي البعدُ أم يجدي اقترابي؟
ورثيت الآخَر بقصيدة مطلعها:
ألا فانهضْ فمثلُك لا يموتُ
وما زالتُ تُساجلكَ النُّعوتُ
ثم أبّنتُه بمقالة عنوانها (ألا من لي بمثلك يا أُخَيّا؟). وما قضيتُ حقَّه، وهل يُقضَى حقُّ الشمس في صَبَارّة القُرّ؟ ما أصدق كلمة أبي الوفاء بن عقيل: «لولا أن القلوبَ تُوقن باجتماع ثانٍ؛ لتفطَّرت المرائر لفراق المُحبّين»! فاللهمّ اجعلنا من الملتقين في جِنانك.
جرّني حديثُ التقاعد إلى بُنيّات طريق أوانسَ حبائب، وإن أشْجَينني.
مشيتُ في أس يابِ الكلية، ومررتُ بمكتب رئيس القسم، ومكتب عميد الكلية، ومكاتب أخرى لي فيها وعندها ذِكَرٌ عِذاب، ووقفتُ عند مكتب جاري الأثير عبدالله بن عبدالرحمن الحيدري، وكان لِصْقَ مكتبي، وعبَقُ عطر هذا الرجل الفارد أدبًا ونُبلًا ومروءة يجوبُ الدهليز، كنتُ حين أحضر وأراه في مكتبه، لا أتركه دون أن أدخل وأسلّم، فنتجاذب طرفًا من الحديث، ونتذاكر شؤون التدريس والبحث، ونتهادى جديد الكتب، وهو يفعل الشيء نفسه.
تقاعد عبدالله الحيدري قبلي بحَولٍ كَرِيت (أي كامل)، فعطف نظري أن اللوحة التي كانت تحمل اسمه قُلِعت، وظلّ مكانها فارغًا؛ انتظارًا لمن يَرِث المكتب! فيا لله العجب! أهكذا يُنسى المرءُ أعجلَ ما يكون؟ أوَ هكذا يُقتسم تراثه، ويُطمَسُ اسمه؟ إنها سُنّة العمل، وطبيعة الحياة التي لا بدّ من الإذعان لها.
مهلًا! أنذعنُ لها كلَّ الإذعان؟ ألا نستطيع تهذيبَها؟ أمن الحتْمِ أن يكون لسانُ أحدنا قولَ الشاعر:
سيُعرَض عن ذكري وتُنسَى مودّتي ويحدثُ لي بعد الخليل خليلُ؟
تمثّلت لي الكلية كالدنيا، سوف نغادرها، ولن يبقى منا سوى أثر أو ذكرى، ورنّ في مِسْمَعي قول شوقي:
تجلّدَ للرحيلِ فما استطاعا
وداعًا جنّةَ الدنيا وداعا
حين عرّجتُ على الجامعة لإنهاء إجراءات التقاعد، استنشقتُ عبير السنوات الإحدى والأربعين التي قضيتها في رحابها، طالبًا فمعيدًا فمدرّسًا فمعيدًا كرةً أخرى، فأستاذًا، وتناهتْ إليَّ من تحت أطباق الزمان أصواتٌ ونداءات، وشعرتُ بأن في كلّ جدار ذكرى، وعند كلّ زاوية بقيةً من زمن، وقطعةً من روح، وفِلْذةً من قلب. كنت أمشي وأرتطم بالذكريات، وهي فخّ، على ما قال أحد الأدباء، ولكنها فخٌّ حتميّ، لا محيصَ عنه.
اختلطت في أذُنيَّ أصوات الطلاب وكلمات الزملاء، وسمعت حَسِيس الجلسات، وضجيجَ اللجان، وخَشْخَشة الأوراق، وعادتْ إليَّ صورة مجلس القسم، رئيسًا له ومرؤوسًا، والنقاشُ فيه محتدم، والأصوات تعلو حينًا، وتنخفضُ حينًا، والنفوسُ تشتدُّ مرةً، وتلين أخرى، والقلوب بين رضًا وسخط، والعيون تترجم، والأنفاس تروي. وراعني، إذِ ادّكرتُ أسماء الأساتذة الذي حضروا أولَ جلسة أَرْأَسها، أنهم جميعًا خارجَ القسم الآن، فمتوفًّى ومتقاعد ومنتقل إلى مكان آخر:
ثم صاروا كأنهم ورقٌ جفّ
فألْوَتْ به الصَّبا والدَّبورُ
لم يبقَ في قسمي الذي عرفتُه قبل نحو أربع وثلاثين سنة، ممن جايلتهم، وخضتُ بواكير العمل بصحبتهم، سوى اثنين! أجيال تلو أجيال، وزمان يمحو آخر، والمكان هو المكان، والدنيا ماضية، والفناء جادّ، والرحى طحّانة، وعند الله الملتقى.
وأتلفّتُ فإذا الجيل الذي دَرَستُ على يديه يتوارى، فرجالٌ كُثر غابوا في السنوات القليلة المنصرمة! إنّ في حركة الحياة وتتابع الأجيال والفناء النشِط عِظةً ومزدَجَرًا {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}:
لله درُّ الموتِ من واعظٍ
وناصحٍ لو سُمع الناصحُ
وفي بقاء من يعرفُه المرءُ هدوءُ نفس وطُمَأْنينة، وقد تمرُّ بك سنوات دون أن تلتقيَ ببعض من تحبّ، وتظلُّ مطمئِنًّا ما بقُوا، حياتهم حياة لقلبك، ورَوْحٌ لرُوحك، وذهابهم ذهابٌ لبعض سعادتك. هم أولئك الذين يشاركونك الذكريات، كلما غاب أحدُهم نقصتْ دائرةُ الذكرى المشتركة، وبقيتَ تتضاءل، حتى إذا غابوا جميعًا، صرتَ جليسَ الوَحدة، ورفيقَ الصمت الشجيّ.
بعد أن تسلّمتُ خطاب (إخلاء الطرف)، وخرجتُ، سنَح لي ذلك الشابّ الممتلئ حيوية ونشاطًا، وهو يدلُفُ إلى المعهد العلمي في الملز، فيلقَى طلابًا كانوا بهجة الروح، وزملاء كرامًا طوى الزمانُ ذكرَهم إلا قليلًا، ثم شخَصَت بين عينيّ صورة المعيد، وهو يعمل في أمانة القسم، ثم بدا لي وهو على مِنَصّة المناقشة في مرحلة (الماجستير)، ثم رأيته أكثرَ عنفوانًا، وهو يستمع إلى مناقِشي أطروحتِه (للدكتوراه)، ورأى ذلك الجمع البهيج الذي حضر مناقشته، والده وإخوانه وبعض أقاربه وأصدقائه..
وفي طريقي إلى المغادرة الأخيرة، احتشدت تُجاهي وجوه الزملاء والأصدقاء، وبدَوا لي بين مودّع ومرحّب بي في رهط المتقاعدين، ولو شئتُ استعراض أسماء الأساتذة والزملاء لطال بي نفَس الكلام، غير أني مدَّخِرٌ الحديثَ عنهم لمقالات أخرى، فلي مع رهط منهم أحداث صِباحٌ مِلاح، وأخرى دَمائم، وما هي إلا أخبارٌ تُروى، وقصص تُراضُ بها الأرواح، ويُستدرَج بها التاريخ، والذاكرة راعفة، والقلم في عنفوانه. والحق مرٌّ، وسوف أمذُقه بسُكَّرَ البيان ما استطعت.
عَنَّتْ لي -وأنا أهمّ بالخروج من أسوار الجامعة خروجيَ الأخير- أطيافٌ باسمة، وأخرى ساهمة، وتكوّمت بإزائي سنوات، يضحك منها شطرٌ، ويتجهّمُ شطر.
خرجتُ (وفي الصدرِ حزّازٌ من الوجدِ حامزُ) من أنْ تُعامِل الجامعةُ متقاعدِيها معاملةً جافية! فإجراءاتُ التقاعد تقضي بتسليم كلّ شيء: مفتاح المكتب والحاسوب المحمول، وبطاقتَيْ المواقف والعمل وغيرها من العُهَد، وكنتُ أظنّ -وبعض الظنّ عملٌ صالح- أن الجامعة ستقول: أبْقِ معك بطاقةَ المواقف؛ ولو إلى حين تاريخ انتهائها؛ لتزورنا متى شئت، فتُفتَح لك الأبواب مرحّبةً، وسنُصدر لك بطاقة (أستاذ سابق) حتى لا ننساك ولا تنسانا:
مُنًى إن تكنْ حقًّا تكنْ أعذبَ المنى
وإلا فقد عشنا بها زمنًا رغْدا
لم أنتهِ، ففي قوس الذكرى منزَع، غير أني أترقّب أن يعنّ الصيد، ولستُ بصيّاد مُجيد.