د.أمل بنت محمد التميمي
في 11 ديسمبر 2023م وصلتنني رسالة (واتس آب) مكتوب فيها: كيف حالك والأسرة الكريمة؟ معك سارة الخزيم من الخرج.
ثم وصلتني بعد ذلك بطاقة تعريفية تحتها صورة مكتوب في معرفها في منصة X «عضو مؤسس في هيئة المكتبات-لدي11 إصداراً،3 منها ترجمت للغات أخرى، بفضل الله صدر مشروعي الأهم موسوعة الرحلات إلى الجزيرة العربية 12 جزءا بموجب شهادة ملكية فكرية»
ثم أعقبتها العبارة التالية:
«أسعد وأتشرف بالتواصل معك».
ثم تواصلت معي هاتفيا الكاتبة وصاحبة الصالون الثقافي الشهير بالخرج سارة الخزيم لتقدم لي دعوة خاصة إلى بيتها ضمن لقاء (مسافات) في ضيافة زوجها الأستاذ محمد بن سيف السبيعي بالضبيعة في محافظة الخرج، الذي سيستضيف معالي د. فهاد بن معتاد الحمد وزير الاتصالات وتقنية المعلومات (سابقا) ومساعد رئيس مجلس الشورى سابقاً، وسعادة د.عبدالله بن صادق دحلان رئيس مجلس أمناء جامعة الأعمال والتكنولوجيا بجدة وعضو مجلس الشورى سابقاً، وأوضحت لي الأستاذة سارة الخزيم أن اللقاء هذا سيكون خاصا بالرجال فقط احتراما للعادات القبلية التي تعيشها سارة في الخرج بين أهل زوجها في بيئة بدوية قروية يعيشون في مكان واحد ويجمعهم مجلس أسري كبير يمنع اختلاط أهل الثقافة من النساء والرجال في مكان واحد. ووضحت سارة موقفها من احترام زوجها وأهله وأهل الخرج رغم ما توصلت إليه من تعليم ومكانه علمية وثقافية واجتماعية في الخرج إلا أنها مازالت تراعي بعد العادات التي تربت عليها وألفتها، وشرحت لي بالفيديو المصور طريقة الحياة التي تعيشها في مزرعة واحدة تضم عائلة أهل زوجها، فلكل شخص منهم خصوصية في بيت مستقل ولكن المزرعة تضم الأخوة والأقارب وتجمعهم في سور عائلي، فهي تدعوني في بيتها وبيت أبو سيف زوجها، ولكن هذه الدعوة لي ولن تكون دعوة عامة، فأنا ضيفتها وحدي في بيتها ولست ضيفة الصالون، وهي بهذه الدعوة تراعي (الارتباط الأسري) الذي تعيشه وتحبه، وزوجها يراعي (الارتباط العائلي) بمجالس إخوانه مطلق وهزاع وبقية العائلة بحسب العادات في الخرج.
رحبت بدعوة أختنا سارة الخزيم وخصوصا أنها خصصتني بالدعوة وكنت أنا المدعوة الوحيدة إلى بيتها العامر، وسبق لي أن ألتقيت بها في تكريم سعادة البروفسورة طبيبة العيون سلوى الهزاع في ثلوثية با محسون، وقلت لها أنا أحترم العادات والتقاليد، ونحن كذلك في مجالسنا يحضر الرجال في مجالس منفصلة عن مجالس النساء، وهو حضور يختلف عن الحضور الثقافي في الأندية والمجالس الثقافية العامة، ولكن لماذا تدعوني سارة إلى بيتها وحدي؟
تدعوني سارة لأسباب عديدة لعل منها توصية من سعادة الدكتور عبد الله دحلان بدعوتي إلى الحضور، وقد قبلت الدعوة ورحبت بالرحلة إلى الخرج، وطلبت منها أن تدعو الدكتور صالح معيض الغامدي؛ لأن الحضور الرجالي سيكون عن الذكريات وسرد جوانب من السيرة الذاتية لضيوف مسافات الذين قدموا خدمات جليلة في خدمة الوطن، وطلبت منها كذلك أن تتكرم وتنقل اللقاء لنا الذي سيكون في مجلس الرجال عبر دائرة (التقنية) ببث مباشر بالتلفزيون، أعجبت فكرة البث المباشر سارة الخزيم وأصبحت تجهز لهذا اللقاء وكأنها تنتظر عرسا في بيتها، وكانت تنقل إلىّ بالتصوير تفاصيل استعدادات هذا اللقاء. ولعل من أجمل ما شاهدت صور (المزرعة) بألوانها وأصواتها الطبيعية وجريان الماء (بالسواقي) بين المزارع وكيف تخترق سواقي الماء الأرض، وهي تجري وتجرف معها أوراق الورد المتطاير من الأشجار والمتساقط في الماء، وصور الأغنام والمواشي، وكذلك صورة الممر الاسمنتي في المزرعة المكتوب عليه البيت الشعري التالي:
يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا
نحن الضيوف وأنت رب المنزل
وصورت لي الأستاذة سارة الخزيم شجرة السدر الغالية على قلبها التي كانت تجلس مستظلة بظلالها، وكذلك صورت لي شجر الحمضيات من الليمون والبرتقال، وصورت لي مكتبها ومكتبتها المطلة على المزرعة واسمعتني صوت خرير الماء منسابا في داخل المكتب ببركة صغيرة ترى من جوانب المكتب، كما صورت لي إطلالة مكتبتها على البيوت المجاورة للعائلة في المزرعة التي تجمع العائلة بأكملها، وكانت تصور لي التفاصيل وتشرح لي وكأنني معها. كنت سعيدة بمشاهدة تفاصيل أحد بيوت الخرج الجميلة، قصر من قصور الخرج البديعة، كانت سارة تصور لي بيوت الضيافة وبيوت أولادها وأخوان زوجها، وكان يخترق جمال الإطلالة ضوء الشمس وسعف النخيل، ثم يندمج صوت سارة بصوت الأذان وخرير الماء وأصوات الغنم والمواشي. كنت أشاهد معها بيئة قروية جميلة وأصواتا تصاحب صوتها بخلفية هادئة مصدرها أصوات الطبيعة التي نفتقدها بالرياض.
كانت رسائل سارة المرئية بالواتس تدخلني (جو القرية) وأنا في مدينة الرياض، وهو شعور غريب وجميل، لقد هيأت رسائل سارة روحي لرحلة تختلف عن طبيعة حياتي في الرياض على الرغم أن محافظة الخرج لا تبعد كثيرا عن مدينة الرياض.
منذ تاريخ دعوة سارة الخزيم إلى يوم اللقاء يوم السبت 23 ديسمبر 2023م؛ أي ما يقارب اثنى عشر يوما، كانت سارة الخزيم خربها ترسل لي تفاصل الاستعدادات لذاك اللقاء بقصص مبهجة عن القرية وحياة العوائل بالخرج وسمعت منها الكثير والكثير عن العادات في تلك الحياة الجميلة ببساطتها وتقاربهم من الأهل والأقارب. لم أكن قد زرت الضبيعة من قبل مطلقا، فجهزت نفسي في يوم اللقاء وللهرب من زحمة الرياض وخوفا من التأخر فموعدنا أن نلتقي في بيت سارة عصرا قبل المغرب حتى نسير في المزرعة قبل الغروب، ولذلك ذهبنا مبكرين إلى فندق الفورمينت لاستقبال د عبد الله صادق دحلان ومعه الدكتور شهاب جمجوم وكيل وزارة الإعلام الأسبق، وكانت معي صديقتي نوف الربيعة والدكتور صالح معيض الغامدي وعائلتي.
استقبلنا الدكتور عبد الله دحلان، وقدم لي هدية ثمينة جدا وهي ستارة جدارية منسوج عليها أسماء الله الحسنى، ونظر إلى صديقتي نوف الربيعة وقال: «ما هي غلاوة صديقتك نوف يا دكتورة أمل؟» فقلت: «مكانة الأخت» فقال اسمحي لي أن أقدم هديتك لها لمكانتها عندك وستصلك هديتك عوضا عنها. فرحت نوف بهدية دحلان، منقوش عليها أقدس الأسماء وهي أسماء الله الحسنى بفن وذوق رفيع يضاعف من جمال الهدية وعمق معناها. والإهداء عادة جميلة عند الدكتور عبد الله دحلان فهو يقدم هدايا ثمينة ذات قيمة فنية عالية تعمق الانتماء الإسلامي والهوية العربية في حياتنا ومنها (جدارية أسماء الله الحسني).
وقد قدمت له أنا هدية تذكارية في شكل جدارية وكذلك قدمت له درعا، وهاتان الهديتان تعمقان الإحساس بالارتباط العائلي، والهدية تحمل صورة غلاف كتاب سيرته الذاتية (حب في خمسين عاما)، والصفحة الأولى من بحثي بعنوان (العلاقات القرابية في السيرة الذاتية في الأدب السعودي) وبحث العلاقات القرابية في السيرة الذاتية السعودية: نماذج مختارة. لأن سيرة دحلان لها فرادتها بين مجموعة النماذج في الدراسةـ، فغلى غلاف الكتاب صورة دحلان وصديقتي العزيزة زوجته سحر، حيث تعكس الصورة والعنوان الأسرة النووية والممتدة ص (3017) مجلة الدراسات العربية، كلية دار العلوم، جامعة المينا تابع البقية في البحث.
وصلنا قبل المغرب إلى الخرج وكانت في استقبالنا السيدة الرائعة والأم والزوجة والكاتبة سارة الخزيم وهي رمز شامخ من رموز السيدات السعوديات، وكان معها وزوجها وأولادها وبناتها، وبعد أن دخل الرجال إلى مجلس الرجال، ودخلتُ معها إلى مجلس النساء، وفتحت لنا سارة جهاز التلفزيون لنتابع الندوة المقامة عبر البث ونرى الحضور، كان د. حمد الدريهم يدير هذا اللقاء الذي حضره عدد من الأكاديميين والمثقفين من بينهم أ.د حمد الدخيل و أ. حمد القاضي و أ.د محمد الربيع و أ.د عبدالله الحيدري و د. زيد الدريهم وكذلك د .صالح بن معيض الغامدي بالإضافة إلى عدد من المهتمين بالمجال الثقافي. كنا نتابع المحاضرة ونعلق على كل مشهد نراه بقصص وحكايات، ومنها صورة تتوسط مجلس الرجال وهي صورة الشيخ سيف بن سعد -رحمه الله- وهو والد زوج سارة الخزيم وقد كان رجل من رجال الملك عبد العزيز -رحمه الله- كنا نتابع الشاشة ونعلق على ما نراه، كنت أنا والدكتورة منيرة المرعب وبنات سارة وزوجة ابنها في مجلس الأسرة نشرب القهوة في ليلة شتوية قروية في جو أسري جميل للغاية، لا يخطر على بال القارئ حينما أقول بيئة قروية جميلة وبسيطة أننا كنا في خيمة، ولا يعني أنه يتخيل أن المكان بسيط في فن العمارة أو الأثاث أو طريقة التقديم بل كان على العكس من ذلك تماما، فهي بيئة فخمة جدا تتكون مما يشبه القصور في طريقة العمارة وتتضمن أفخم الأثاث والتقديم، فهي قصور في مزرعة ولكن البساطة كانت تعني الجمال في الكلام والحكايات والأجواء الدافئة الحميمية في العلاقات الإنسانية.
تحدث في هذا اللقاء ضيوف صالون (مسافات) عن مسيرتهم منذ البداية مرورا بمسيرتهم التعليمية وخدمتهم للوطن والاعتزاز بذلك. كانت أحاديثهم أشبه بسير ذاتية شفوية، بالإضافة إلى التطور السريع الذي تشهده المملكة العربية السعودية تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود و سمو ولي عهده الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظهما الله- . بعد ذلك أتيحت الفرصة لمداخلات من الحضور. وتحدث الدكتور صالح بين معيض الغامدي عن السيرة الشفهية وأعلن عن موافقة وزارة الموارد البشرية على إنشاء (جمعية جماعة السيرة الذاتية الحياتية) وكان من الأعضاء الجمعية المؤسسين المتواجدين تلك الليلة سعاد الدكتور عبد الله صادق دحلان وسعادة الدكتور عبد الله الحيدري وأنا بوصفي نائب رئيس مجلس الإدارة ود صالح رئيس مجلس الإد ارة، وفي نهاية اللقاء قدم الأستاذ محمد بن سيف السبيعي دروعا تذكارية تكريما لهم لتشريفهم بالزيارة واللقاء. ففي ملتقى محمد بن سيف الثقافي بالخرج وبالتعاون مع صالون سارة الثقافي كنا نستمع إلى سير المشاركين وتاريخ حياتهم، ونرى حياة عائلية لأبرز عوائل الخرج تجسد جمال العلاقات القرابية بين الإخوان وأولاد العمومة.
وفي الجهة الأخرى في مجلس النساء كنتُ أشاهد أجمل مشهد في حياتي وهو حياة أسرية جميلة تجمع بين الأصالة والمدنية، وأثناء العشاء رأيت مشهدا أجمل من كل المشاهد التي كانت ترسلها لي سارة الخزيم بالواتس آب، رأيت سفرة طعام مقدمة على أجمل طريقة حديثة، وكان طقم السفرة أشبه ما يكون بمتحف اللوفر بفرنسا لجمال التفاصيل من الشمعدانات والمناديل المنقوشة بلون ملكي جميل وراق جدا، ورغم كل التفاصيل الحديثة الجميلة في طريقة تقديم الطعام ووجود الخدم للتقديم، رأيت ابنة سارة (منيرة) حفظها الله جميلة في كل شيء وعذبة الكلام وجميلة الأخلاق، فكانت ترتدي فستانا وتاجا وكأنها أميرة من أميرات القصص الجميلة، فهي فتاة جميلة في كل تفاصليها ورغم هذا تعتز بعاداتها، وهي تأكل الأكل بأطراف أصابعها بالطريقة السعودية العريقة في أكل الذبائح بأطراف الأصابع وعلقها، وكان أجمل ما في هذه الرحلة هذا المشهد الذي لا يفارق عيني، وسأطلب من فنان يرسم هذه اللوحة الجميلة لتكون جدارية تخلد عادة إسلامية عريقة في حياتنا البدوية وهي الكرم وأكل الذبائح الرز واللحم (بالأيدي) بأطراف الأصابع.
وختمت سارة الرحلة بصعودنا إلى مكتبها الجميل الذي له إطلالة زجاجية فسيحة فهو يطل على المزرعة، وكنت قد شاهدته بالصور والمقاطع المرئية ولكن الجديد هو أنني أصبحت أستنشق هواء رائحة المزارع وأتنفس هواء جميل المحمل بعبق الزهور وبرائحة الطين ورائحة القرية. وأهدتني الأستاذة سارة كتبها بالعربي والمترجمة، ومن أهمها موسوعتها الضخمة الكبيرة.
ليلة عامرة في ضيافة سارة الخزيم في بيتها بالخرج، كانت ليلة جملة عشناها بين المزارع وحكايات السيرة. ما أجمل رائحة الطين المبلل بالمطر والسمر، زرت مكتبة سارة الخزيم وغمرتني بإهدائي موسوعتها المرموقة (موسوعة الرحلات) إلى شبه الجزيرة العربية عبر التاريخ، التي تقع في 12 جزءا وقد قضتْ في تأليفها سارة 13 عاما لترى هذه الموسوعة طريقها إلى النور، وقد غطت هذه الموسوعة 14 قرنا وتناولت بالتعريف ما يقارب من (262 رحلة) لرحالة عرب وأجانب، مسلمين وغير مسلمين، وكان يعمل معها فريق للمراجعة من الأساتذة الأكاديميين، والموسوعة هدية ثمينة وتستحق أن تأخذ حقها في التدشين والقراءة وإقامة الندوات والمحاضرات وعقد الدراسات البحثية عنها، فهي مادة علمية تستحق أن تكون مدونة علمية للدراسات العليا، في أقسام التاريخ والجغرافيا والحياة الاجتماعية.
وقد حظيت أنا بزيارة المكان التي كتبت فيه سارة موسوعة الرحلات وهو أرض الضبيعة في الدلم بالخرج، فالجو الذي أنتج هذه الموسوعة جو ثقافي قروي عامر بالصفاء والنقاء، وهذه الإشادة بالموسوعة في هذا المقال هي دعوة لقراءتها والاستمتاع بها ودراستها أكاديمية وبحثيا فهي تشبه المكان القروي المليء بالجمال والهويات المتعددة للمكان نفسه عبر الثقافات. فأنا في هذه الرحلة إلى الخرج قد رأيت سارة السيدة والكاتبة والزوجة والأم وأم الزوج والباحثة وهي رمز للسيدة العربية الشامخة التي تشبه في شموخها شموخ نخيل الخرج. فإن كنت قد استمتعت مع سارة طوال الاستعداد إلى اللقاء بهوايتها الجميلة بالتصوير، فقد ازداد استمتاعي في الزيارة لتثبيت الحقيقة والفن بالصور، فسارة بارعة بتصويرها للأشجار والأزهار وسواقي الماء والطبيعة بكل تفاصيلها مع طلوع الفجر وعند الغروب وعند المغيب، وحينما زرت بيتها شاهدت في مكتبتها هدايا لرسامات الخرج مليئة بجمال الخرج، وأجمل ذكرى خرجت بها من رحلتي إلى الخرج رائحة العود والذبائح والطين وجمال العلاقات القرابية في الخرج و(موسوعة الرحلات).
** **
- أستاذة الأدب والنقد بجامعة الملك سعود