د. جمال الراوي
الغيرة هي الصفة الغالبة عند بعض النساء، تتفاوت في شدّتها ودرجاتها من امرأة إلى أخرى، علماً بأن الرجل لا يحب المرأة شديدة الغيرة، تلك التي تفضح نفسها، لأنها لا تغار إلا لأنها غير واثقة من نفسها، ولأن غيرتها غلبت على طبعها، جعلت منها محور حياتها، تلاحق زوجها على كل صغيرة وكبيرة؛ فتهدد استقراره وثباته؛ فيصبح كثير الحرص والخوف منها، ليصل إلى مرحلة لا يعود يملك القدرة على التحمل؛ فيؤدي هذا إلى الفراق والانفصال.
وغيرة بعض النساء من الأسباب التي تؤدي إلى خراب البيوت، خاصة إذا كانت غيرة مفرطة، ومبالغاً فيها، تصل إلى درجات غير محتملة، تلاحق المرأة زوجها في كل شؤون حياته الوظيفية والأسرية، تستجوبه عن كل شاردة وواردة، تضعه تحت مراقبة مستمرة وشديدة؛ لأنها غير واثقة من نفسها، أو لأنها غير واثقة بشريكها، أو أنها هي حالة نفسية من الخوف الدفين خشية أن تفقد شريكها، ويصبح ملكاً لغيرها.
والغيرة عاطفة تنافسية، تأخذ طابعاً أنانياً، تصبح -في بعض الحالات- غيرة عدوانية، حينما تلجأ المرأة للحصول على ما لا يحق لها، أو إلى ما هو ليس ملكاً لها، أو للاستئثار بشيء دون غيرها، كأن تحاول إبعاد الزوج عن أهله بسبب غيرتها منهم، تبذل -لأجل ذلك- مجهوداً عاطفياً كبيراً، تلجأ -في سبيل تحقيق هذه الغاية- إلى النميمة، واصطناع المشاكل واختلاق الأكاذيب!!... وبسبب هذه الغيرة المسيطرة على المرأة، تحصل نتائج اجتماعية وأسرية كارثية.
وقد تكون الغيرة -لدى بعض النساء- ردة فعل طبيعي، بسبب عدم شعورها بالأمن والاطمئنان من شريكها، الذي يملك صفات مثيرة للشبهات، أو قد تكون غيرة المرأة ردة فعل بسبب علاقات غير مستقرة وغير طبيعية مع زوجها أو مع أهله... أو بسبب تقصير الزوج، وعدم قيامه بواجبه وانصرافه لاهتمامات أخرى، مما يثير عندها غيرة شديدة، خشية أن يكون قد وجد عيباً فيها؛ دفعه إلى عدم الاهتمام بها!! مع العلم بأن انصراف الرجل عن شريكته، وعدم اعترافه بأنوثتها، وعدم امتداحه لها، وعدم التغزل بها وبجمالها، يولد لديها شعوراً بالكآبة والقلق والخوف، ويشعرها بأنها غير مناسبة له، وأنه يبحث عن بديلة عنها، وهذا هو أحد أهم دوافع غريزة الغيرة عندها!!
لدى بعض النساء غيرة تنافسية، تنظر بعين المنازعة مع جميع النساء من حولها، مهما كانت صفاتهن ووضعهن العائلي والأسري، لا تقبل أن تكون أي واحدة منها أفضل منها في تدبير شؤون البيت وفي الترتيب والطبخ، ولا ترضى أن تكون أخرى أميز منها، ولا تقبل أن تزاحمها الواحدة منهن في الحصول على الثناء والإطراء من قبل زوجها أو أحد أقاربها، لأن المرأة -بطبيعتها - لا تحب أحداً يمتدح أخرى بوجودها، وقد ترتكس بطريقة جنونية؛ فتتفجر الغيرة، لتصبح عداوة ومشاحنة وكرهاً شديداً!!
في حقيقة الأمر؛ قد تكون غيرة بعض النساء ذاتية المنشأ، أو وراثية الطبيعة، بسبب نشأتها في بيئة عائلية مضطربة، مع خلافات زوجية مستمرة، أو بسبب تفضيل العائلة لإحدى الشقيقات على الأخرى، أو بسبب تعرضها لصدمات في طفولتها، أو بسبب وجود أم ذات طبع استرجالي، أو تكون المرأة -بطبعها- شديدة الحساسية والتوتر، لديها خوف وقلق من فقدان الأحبة، تجدها في حالة من الذعر والخوف الدائمين، تفسر الأمور بطريقة سوداوية.
وأكثر ما تخشاه نساء اليوم، هو أن يتزوج عليها زوجها بأخرى، وغالباً ما يفجر وجود هذه الزوجة الثانية مشاعر الغيرة لدى الزوجة الأولى؛ فتصبح الحياة الأسرية مليئة بالمشاحنات والعداوات، وقد تنتهي بالطلاق، لأن بعض النساء يرفضن -بشدة- وجود الزوجة الثانية في حياتهن!!
ولا يمكنني أن أنسى هذه القروية، التي كانت امرأة من طراز فريد، تتميز بقوة عواطفها ومشاعرها، ارتفعت بها إلى مقامات تجاوزت كل الحدود والعراقيل، دخلت إلى العيادة برفقة امرأة أخرى تتكئ على كتفها، وتقودها بكل شفقة ورأفة وحنان...كنت أراقبها، منذ دخولها من الباب، وأسمعها وهي تتألم لألمها، وتحنو عليها بعطف غير مسبوق، وقد ظننتها أختها، لأنها كانت تبادلها الآهات، وتردد الدعاء لها، وتدعو الله أن يشفيها، وتدعوه أن يجعل ما أصابها فيها بدلاً عنها، وصعقت عندما علمت بأنها ضرتها!!
ولو وقفنا لحظات مع هذه القروية، لوجدناها -دون شك- امرأة لديها أحاسيس المرأة ومشاعرها، لا تختلف عن أي واحدة من نساء العالم، لكنها امرأة ارتقت بمشاعرها، وتجاوزت أنانيتها، وجدت الغيرة غير مناسبة لطبيعة حياتها، وأنه لا بد أن تتقاسم الحياة مع أخرى؛ فجعلت منها رفيقتها وصديقتها، واتخذتها شريكة لها، تتقاسم معها العمل والشقاء والمجاهدة، ولم تعد ترى أي شيء من مباهج الدنيا، التي تراها النسوة في هذا الزمان، وآمنت بأن زوجها محور الحياة، وأنها غير قادرة على تلبية حاجاته، والاعتناء ببيته وحدها.
أما الغيرة -بين الرجل والمرأة- فهي شعورٌ طاغٍ ينتج عن التقاء عاطفتين متناقضتين في الغاية والاتجاه؛ فهي عند الرجل تتميز بعاطفة الحب والمودة، وتتميز عند المرأة بالأنانية وحب الذات؛ فينتج عن هذا الالتقاء صراعٌ، ونارٌ تحرق الأكباد والقلوب؛ فتختفي عاطفة الحب وتذوب، وتظهر محلها روح الانتقام والأذى!!
وعندما تصيب الغيرة العلاقة بين المرأة والرجل، تصبح -بينهما- الحياة أكثر صخباً، لأن نارها حارقة؛ فالمرأة عندما تغار تكره الرجل، وتحقد عليه، بينما غيرة الرجل تترافق بكره نفسه، والنقمة عليها.
عندما تغار المرأة تتوهج وتثور وتفقد توازنها، أما عندما يغار الرجل فإنه يسكن ويهدأ، وقد تحدث استثناءات؛ فيثور الرجل ويقدم على أفعالٍ طائشة، لكنه -في معظم الأحيان- يركن إلى نفسه، يعاتبها ليستخلص منها العبر، بينما تحاول المرأة أن تنفس عما في صدرها؛ فتنفجر صارخة، لتعبر عن الألم الذي أصابها، لأنها فشلت في نيل من وضعت كل آمالها وأحلامها حوله، والاستئثار به دون غيرها.
ويجب التمييز بين الغيرة المحمودة والغيرة البغيضة، فالمحمودة هي خلق كريم، وضعها الله في قلوب البشر، للحفاظ على حقوقهم، وعدم الاعتداء عليها، والدفاع عنها حتى الموت، كمن يدافع عن دينه وماله وعرضه وأهله وأرضه، وهي غيرة ذات شأن عظيم، مجبول عليها كل إنسان سوي ونقي الفطرة.
وقد عرف العرب الأوائل قيمة الغيرة، لأنهم أكثر شعوب الأرض وأممها حرصاً عليها، ولعلها إحدى الأسباب التي اختارهم الله لأجلها، لحمل رسالته؛ فقد كانوا يحرصون على جيرانهم، ويغارون على أعراضهم، يرونها حقوقاً يجب صونها، وعدم الاعتداء عليها، وهذا عنترة بن شداد، يقول عندما تخرج جارته من بيتها:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي
حتـى يــواري جارتــي مأواها
وقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بتوصيف معجز للتفريق بين الغيرتين المحمودة والبغيضة، وقال: «من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله، فأما التي يحبها الله، عز وجل، فالغيرة في الريبة، وأما التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة» (صحيح النسائي للألباني)؛ فالأولى غيرة تأتي على إثر واقعة ثابتة ومؤكدة، بينما الأخرى مجرد أوهام وتخيلات وشكوك؛ فالأولى تستدعي الحيطة والحذر، واستئصال كل ما يفسد العلاقة بين الرجل والمرأة، أما الثانية مجرد وساوس وشكوك، يجب الابتعاد عنها، لأنها لا تجلب سوى الهم والقلق، وتؤدي إلى عواقب كارثية على الزوجة.
والغيرةُ بين المرأة والرجل، هي أشد أنواع الغيرة، وهي صراع متواصل، لا انقطاع له، وهي ابتلاء ومصيبة، إذا حلت على البيوت أحالتها خراباً ودماراً!! ولا يخلو أي بيتٍ منها، والله تعالى يقول عن يوم القيامة: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} (البقرة:25)، وقد أشار المفسرون إلى أن طهر النساء في الجنة ليس من البول والحيض وغيره فحسب، وإنما يمتد ليشمل الطهر من الغيرة والصفات المذمومة في المرأة، كالبغض والكره والعجب والخيلاء وغير ذلك.