فيصل بن عبد الله بن محمد آل سعود
تدور هذه الأيام حملة لها من الأهمية ما يمس كل مواطن مسؤول عن أمن الوطن ومستقبل أجياله. فهذه الآفة ليست وليدة اليوم، لكنها أداة حرب فتاكة تستهدف الشعوب لتنخر في تركيبتها من الداخل، مستهدفةً في المقام الأول شبابها أمل مستقبلها.
عندما كرمني الوطن لخدمته في وزارة التربية والتعليم سابقاً، كانت لي تجربة مع الزملاء في الوزارة لإيجاد حلول لمواجهة هذه الآفة التي يرى مروجوها أن السوق الأسهل والأوسع بين الشباب هي في مدارسنا. وبحكم مسؤولية الوزارة عن هذه الفئة الأهم في المجتمع، كانت الوزارة عضوا في هيئة مكافحة المخدرات التي كان يرأسها وزير الداخلية سيدي صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز - تغمده المولى بواسع رحمته ورضوانه -، وهنا كانت أول مواجهتي كجزء من هذا الكيان لتحمل المسؤولية وإيجاد حلول لها، علها تكون داعماً ومسانداً لمكافحة هذه الآفة.
المسؤولية والإحساس بأنه يجب أن تساهم الوزارة بكل قوة لتكون في المقدمة لمواجهة هذه الآفة وإيجاد الحلول ذكرتها في كتابي «التحول المعرفي»، بدءاً بدور العائلة:
فالعائلة هي العنصر بالغ الأهمية في عملية البناء والأساس في التربية، رغم أنها ليست من ضمن مسؤوليات الوزارة مباشرة، ولكن الوزارة تتحمل مسؤولية التخطيط لدور الأسرة واستقطابها وتفعيلها في البناء المعرفي. إذ إن أولى الخطوات هي التعرف على العائلة؛ وذلك بإعداد برامج تنبع من دور المدرسة في ربط طلابها وعائلاتهم بها، والتواصل معها، خاصة الآن بعد أن عززت التقنيات الحديثة وسائل التعريف والتقريب بين العائلة والمدرسة من خلال «برنامج نور ووسائل التواصل الاجتماعي وبرامج النشاطات الرياضية والصحية والترفيهية والمعرفية، وكذلك برامج التوجيه الديني والاجتماعي، بأسلوب حديث ومنفتح يتماشى مع تفكير الجيل الجديد والمؤثرات الاجتماعية، وفق مفهوم «الارتباط بالأصل والاتصال بالعصر».
وفي الإطار نفسه يندرج الدور المحوري «لأندية مدارس الأحياء» التي قامت على أساس فتح أبوابها لجميع النشاطات واستقطاب الأب والأم والابن والبنت، وكذلك مسؤولي المسجد في الحي من الساعة الرابعة عصراً وحتى التاسعة مساءً. وفي تقديري أن هذه الأندية هي من أجدى البرامج التي ستعيد ثقة العائلة بالمدرسة، وستشكل مجالاً لجمع المدرسة والطالب وعائلته.
وهنا لا بد لي من التوقف أمام ما دفعنا إلى تطوير فكرة «أندية مدارس الأحياء». بعد مرور أشهر قليلة على التحاقي بالوزارة، وهو أننا دعونا إلى الاجتماع بلجنة مكافحة المخدرات، وكان ذلك في شهر رمضان المبارك، في مكتب وزير الداخلية بجدة، صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز - طيب الله ثراه -، وهناك عرضت علينا الأرقام المخيفة للكم الكبير من المخدرات التي تُستهدف بها بلادنا وشبابنا. وكان -رحمه الله - منفعلاً ومتحمساً لإيجاد حلول للشباب بإشغالهم بما هو نافع ومفيد ودرء شر هذا المرض الخبيث عنهم. فوجه حديثه إليّ وإلى سمو الأخ الأمير سلطان بن فهد الرئيس العام لرعاية الشباب آنذاك، قائلاً:
«يا إخوان عليكم مسؤولية كبيرة وأمانة عظيمة للقيام بواجبكم تجاه فلذات أكبادنا، فأنتم المسؤولون عنهم أمام الله قبل كل شيء وأمام ما حملكم ولي الأمر من مسؤوليات. أنا أطلب منكم اليوم العمل على مواجهة هذه الآفة، وسوف أقف معكم وأدعمكم بكل ما تحتاجونه من ملاعب وأندية ومقرات، لتؤوي شبابنا وتشغلهم بما هو نافع ومفيد، وتبعدهم عن هذا الوباء الذي يستهدفنا».
سمعنا توجيهاته الكريمة وصدق رسالته - يرحمه الله - وبدأت أفكر في الحلول. وتذكرت تجربة حضرت افتتاحها قبل أعوام، وهي حديقة أقيمت في حي من أحياء جدة بمساهمة مشكورة من أهالي الحي، كانت تلك الحديقة - كما الكثير من حدائقنا العامة - مهملة ومنسية، تبرع الأهالي لإحيائها بشكل جذاب، وتزويدها بملاعب وصالات وبرامج تجمع الشباب وتشغلهم بما هو مفيد ونافع يشارك فيه أبناء الحي، بعد ما كانت موطن فساد ومرتعاً للمخدرات.
عدت في الاجتماع الثاني وعرضت على مقامه الكريم فكرة الحديقة، وبدأت حديثي بقوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، وشرحت فكرتي قائلا: إن التغيير الصحيح يبدأ من الحي. فمهما بني من مقرات وأندية في مناطق بعيدة، فإنها لن تكون ذات فائدة كأندية الأحياء. ثم طلبت من اللجنة أن تطلع على مشروع الحديقة تلك، ليطبق في الأحياء وتستغل الحدائق بمشاركة الأهالي لتعم الفائدة.
من هذا المنطلق، طلبت من الزملاء في الوزارة أن يقوموا بزيارة الحديقة ودراسة تأثيرها على المدارس المحيطة. وكانت النتيجة باهرة. وهذا ما دفعنا إلى تبني مفهوم «أندية مدارس الأحياء»، وأن تقوم الوزارة باختيار مدرسة بنين ومدرسة بنات في كل حي ونطورها بالاحتياجات اللازمة لتكون أندية تساعد على جذب الشباب ومفتوحة أمام الآباء والأمهات وأهالي الحي ليمارسوا فيها برامج رياضية وتعليمية وترفيهية تعزز ارتباط المنزل بالمدرسة والحي، الأمر الذي يعيد الثقة في دور المدرسة، ويشكل بيئة جاذبة تحمي شبابنا وتخدمهم بما هو مفيد ونافع.
هذه تجربتي في الوزارة، وكانت لي مع الزملاء والزميلات في مجموعة «الأغر» تجربة بدأناها عام 2012م، حيث قمنا بعمل دراسة استقصائية وبحث ميداني هو الأول من نوعه لقياس أنماط التربية للأسر السعودية بالمملكة. ونتيجة لما وجدناه من أرقام وإحصائيات مقلقة يتطلب تصحيحها حلولاً إبداعية متنوعة تواكب تسارع نمط الحياة والثورة التكنولوجية والانفتاح والتغييرات الفكرية والاجتماعية المستمرة، فعليها ابتكرنا مفهوم «الأسرة المعرفية»، لنتمكن من تحقيق التنمية المستدامة والتميز إقليمياً ودولياً.
ويرتكز مفهوم الأسرة المعرفية على اكتساب وجلب المعرفة بكل ما يتعلق بالأسرة ومهارات تربية الأبناء، والتعامل مع المعرفة لمواجهة متغيرات العصر في التعامل مع الأبناء، وتهيئتهم للعمل في مجتمع المعرفة، ومشاركة الآخرين في المعرفة المكتسبة والتجارب الناجحة.
فبناء أسرة معرفية سعودية تساهم في التنمية يكون برفع مستوى المعرفة والمهارات التربوية للوالدين (خاصة في السنوات الست الأولى من عمر الطفل)، من خلال منظومة متكاملة من أدوات تغيير السلوك الاجتماعي المعدة، تبعاً لأفضل الممارسات والتجارب الدولية استناداً إلى مخرجات بنية تحتية صلبة، وبالتعاون مع شركاء التنمية في المجتمع. وقد بدأت مجموعة الأسرة المعرفية بالفعل باتخاذ أولى خطوات التطبيق بالتعاون مع مراكز الأحياء وجمعيات المجتمع المدني لتحقيق أهدافها.
ومن الجدير بالذكر أنّ البحث كشف عن نتائج مقلقة كان أبرزها نتائج تصنيف أنماط التربية للأسر السعودية في المملكة، والتي أظهرت أنّ 75 % من العينة لا تؤمن بأهمية تطوير مهارات التربية الفطرية، بينما لا يدرك 18 % أهمية التربية ولا يملكون أي دافع لتطوير مهاراتها. من جانب آخر يدرك 5 % من عينة البحث أهمية التربية إلّا أنّ هناك ما يعوقهم عن بذل الجهد لاكتساب المهارات، ما ينتج عنه أنّ 20 % فقط من عينة البحث هم المدركون لأهمية التربية وجادون في تطوير مهاراتها.
والمسجد هو الأساس في التعليم، وأول مدرسة في الإسلام، ومكمل هذا الثلاثي، ويجب ألا يكون غذاء للروح فقط، بل يجب أن يساهم في بناء العقل وترويض النفس.
ذكرت المسجد؛ لأنه يجب أن يقوم المسؤولون عنه بالتواصل مع ساكني الحي، وكذلك مع مدارس الحي للتنسيق بتطوير أساليب جذب حديثة للشباب واستغلال المساجد للتوعية بمفهوم عصري يرتبط بالأصل.
هنا أرى التكامل في ربط كلّ من المسجد والمنزل والمدرسة مع بعضها، والحل هو «أندية مدارس الأحياء».