إبراهيم بن سعد الماجد
أكره ما أكره الأرقام، وتحزنني عندما ترتبط بالأعمار، فلم أكن يوماً ممن يعد الحياة سنين تمر، ولكنني ممن يؤمن إيماناً جازماً بأن العمر وقيمة عمر الإنسان بما زرع، وبما نشر من فضائل، ولو لم تكن إلا إشراقة وجه، وحسن حديث، وحب الخير للآخرين، وحسن ظن بهم.
لا أقف البتة أمام تواريخ الميلاد، ولا أكتب عن البدايات والنهايات، ولكنني أكتب عن الأثر، وتاريخنا العربي والإسلامي يزخر بأسماء لها حضورها الفكري والعلمي، وتعد مرجعية في فنها، وهي التي رحلت في عز شبابها، إذن فعمر الإنسان ليس أرقاما وإنما هو أثر!
تفاصيل حياة أي إنسان لا تهم عامة الناس مالم تكن مرتبطة بأثر خلده، مما يستوجب الاستفادة وأخذ الدرس العملي من هذه السيرة، والقصص القرآني جاء من هذا المنطلق {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (111) سورة يوسف.
أن يكون حديث الناس عن الراحل من المتفق عليه، في دينه وكرمه ونخوته وانبساطه وحسن تعامله، فتلك وربي أمنية كل إنسان {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (84) سورة الشعراء.
حديثي في هذه المقالة عن فقد كبير ليس لأسرتي المهنا والماجد بل ولكل من عرفه ومن سمع به، الخال محمد بن عبدالله بن سليمان المهنا، هذا الرجل الذي أستطيع أن أقول عنه إنه الرجل (المتفق عليه)! نعم الجميع متفق على أنه - رحمه الله - كان تقياً ودوداً نقياً لطيفاً عزوماً شجاعاً كريماً، صواما وقواما.
تشيعك القلوب وأنت فيها
حـبيباً طاهراً عفاً نقيا
رحلت وفي الحشا ألف ألف جرح
على فراقك تدمي جانبيا
الكل يتحدث عنه وكأنه الوحيد الذي يوليه اهتمامه ويعطيه المزيد من المحبة والتقدير، الكل يقول كان معي بشكل خاص! واذا الجميع كان معهم، الجميع سمع نصيحته والجميع نال كرمه.. سفرته وأخلاقه وطيب حديثه.
أرثيك يا كريماً تردد ذِكرهُ
بين الأنام وهل يفيد بيانِي
كان أبي -رحمه الله- محباً له، وكثيراً ما كان يأتي زائرا ومسلماً على والدي الذي كان قليل الخروج، كان واصلاً للجميع، محباً لأهل الخير والتقى، لا يحبسه حابس عن الصلاة، ولا يحبسه حابس عن تلمس ساعة الإجابة عصر الجمعة، فيخرج وكأنه على موعد لازم موقوت، يذهب لمصلاه ليناجي ربه!
يا طيبَ منْ رافقتُ مِنْ رجُلٍ
يرْحمْهُ ربي كانَ أحسَنَنا
عذباً صدوقاً صائماً سمحاً
جلْداً صبوراً قانتاً حزِنا
كان رجل تربية بالقدوة، وقد خلّف خلفاً شبيهاً به من أصحاب المعالي والفضيلة والسعادة أبناء وبنات وأحفاد وأسباط، هم للفضل والكرم عنوان، وقد قيل: (من خلّف ما مات)
قلت: إنني أكره الأرقام وخاصة عندما ترتبط بالأعمار، ولا أجد في عمر فقيدنا الذي بلغ التسعين إلا أكبر دليل على عدم أهمية الأرقام فقد كان شباباً حتى آخر أيامه، يسأل عن الكبير والصغير وبالتفصيل الدقيق، وقد سألني قبل رحيله عن أولادي بأسمائهم ذكورا وإناثًا، ورفع كفيه الطاهرتين داعياً لهم.
حقيقة تؤكد أن عمر الإنسان ليس رقماً أبداً، فالحياة عطاء.
الخال محمد صاحب مجلس لا يُمل يحفظ الأحداث ويرويها في مجلسه، ويحب أن يسمع القصص والأشعار، وخاصة ما يرتبط بالبطولات والكرم والنخوة، كيف لا ووالده -رحمه الله- عبدالله بن سليمان المهنا كان من الفرسان أيام الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - وكثيراً ما حدثنا عنه.
الحمد لله الذي جعلنا مسلمين مؤمنين بأن ما عند الله خير وأبقى لعباده المتقين.