عبدالرحمن الحبيب
روشير شارما أحد كبار المنظرين للرأسمالية والاقتصاد الحرّ، أصدر مؤخراً كتابه بعنوان «ما الخطأ الذي حدث في الرأسمالية؟» معتبراً أن أكبر خطأ ارتكبته الدول الرأسمالية من أمريكا إلى اليابان مروراً بأوروبا هو تشويهها للاقتصاد الحرّ بكثرة تدخلاتها في الاقتصاد فعلى مدى قرن من الزمان، توسعت هذه الحكومات، تقريباً، في كل الاتجاهات القابلة للقياس، من الإنفاق إلى التنظيم وحجم عمليات الإنقاذ المالية عندما يتذبذب الاقتصاد.
والنتيجة هي ضمانات حكومية باهظة الثمن للجميع بزعم عمليات إنقاذ للأغنياء، واستحقاقات للطبقة المتوسطة، ورفاهية للفقراء.
يقول شارما: «من حق التقدميين اليساريين، جزئياً، عندما يسخرون من الرأسمالية الحديثة باعتبارها «اشتراكية للأغنياء»، لكن الحكومات كانت تقدم الإغاثة للفقراء والطبقة الوسطى أيضًا... فقد أدى قرن من التوسع الحكومي إلى تشويه الأسواق المالية، وإذكاء فجوة التفاوت بين الطبقات على نطاق واسع، وإغراق أمريكا في الديون... الرأسمالية لم تفشل، بل انهارت... أمريكا أصبحت تعتمد بشكل غير صحي على الأموال السائبة والحكومة المتضخمة..
شارما هو من أصل هندي حاصل على الجنسية الأمريكية، يذكر أنه في خطاب الوداع للرئيس الأسبق رونالد ريجان وصف أمريكا بأنها «المدينة المشرقة على التل»، مفتوحة «لأي شخص لديه الإرادة والقلب للوصول إلى هنا»،ـ يقول شارما لقد كنت واحدًا من أولئك الذين ألهمتهم المحاولة، واليوم لا يزال المزيج الديناميكي من الأكاديميين ورجال الأعمال الذين يحفزون رواد التكنولوجيا في العالم يذهلني باعتباره أعجوبة. ومن بين أكبر مائة شركة في الولايات المتحدة، أصبح لعشر منها الآن رؤساء تنفيذيون ولدوا في بلدي الأصلي، الهند، وهو إنجاز ما كان ليحدث إلا في ظل نظام الجدارة الرأسمالية.
ويكمل شارما، مع ذلك فإنني أشعر بالقلق إزاء المكانة التي تقود بها الولايات المتحدة العالم الآن.
لقد تراجعت الثقة في الرأسمالية الأمريكية، التي بنيت على حكومة محدودة تترك مجالاً للحرية الفردية والمبادرة. لا يتوقع أغلب الأمريكيين أن يصبحوا «أفضل حالا في غضون خمس سنوات»، وهو مستوى قياسي منخفض منذ طرح مقياس إيدلمان للثقة هذا السؤال لأول مرة قبل أكثر من عقدين من الزمن.
أربعة من كل خمسة يشكون في أن الحياة ستكون أفضل لجيل أبنائهم مما كانت عليه لجيلهم، وهو أيضًا مستوى متدنٍ جديد.
ووفقاً لأحدث استطلاعات الرأي التي أجراها مركز بيو، فقد انخفض تأييد الرأسمالية بين كل الأمريكيين، وخاصة الديمقراطيين والشباب.
والواقع أن 58 % من الديمقراطيين الذين تقل أعمارهم عن 30 عاماً لديهم الآن «انطباع إيجابي» عن الاشتراكية؛ 29 في المائة فقط يقولون نفس الشيء عن الرأسمالية.
يوضح الكتاب، أنه بالعودة إلى القرن التاسع عشر، سنجد أن ردود أفعال الحكومة على التطورات الاقتصادية تغيرت تمامًا: من عدم التدخل إلى التدخل، ومن القيام بالقليل جدًا لمساعدة أي شخص في الأوقات الصعبة إلى محاولة منع أي شخص يعاني من أي ألم اقتصادي. لم تعد هناك فرص كبيرة للجدارة والمنافسة والحوافز أو البقاء للأصلح.. ومقابل أخطاء الإغفال واللا مبالاة للإسراف في الإنفاق والتدخل، ضخت الحكومات من الولايات المتحدة إلى أوروبا واليابان قدراً كبيراً من الأموال إلى شرايين اقتصادها، حتى أن الأسواق المالية لم تعد قادرة على استثمار كل رأس المال بكفاءة.
باعتبارها منفقًا ومقترضًا ومنظمًا، عملت الحكومات، عن غير قصد، على تغذية صعود الاحتكارات، والشركات «الزومبية»، والمليارديرات. لقد جعلت الرأسمالية أقل عدالة وأقل كفاءة، الأمر الذي أدى إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وتغذية الغضب الشعبي.
لقد تغير شيء ما في الثقافة، يقول شارما، فكما كانت «الثورة الأمريكية في إدارة الألم»، التي أصرت على علاج حتى الإصابات المعتدلة بالمواد الأفيونية القوية، تربط الأمة بالأوكسيكونتين (مُسكّن الآلام الشديدة)، فإن نهجها في إدارة الألم الاقتصادي كان يؤدي إلى إدمان النظام على الدعم الحكومي المتقطر. خلال العقدين الماضيين، تراجعت الولايات المتحدة من المركز الرابع إلى المركز الخامس والعشرين في تصنيفات مؤسسة التراث للحرية الاقتصادية مع زيادة التنظيم والديون.
الخطوة الأولى للعلاج -حسب شارما- هي التشخيص الصحيح للمشكلة.
لقد تعرضت الرأسمالية لتشويه شديد بسبب التدخل الحكومي المستمر والانتشار المتواصل لثقافة الإنقاذ. إن بناء دولة أكبر لن يؤدي إلا إلى مضاعفة ما دمر الرأسمالية في المقام الأول. إن الحل الحقيقي سوف يتطلب ضبط النفس، وإيجاد حل وسط بين أنصار التصفوية في القرن التاسع عشر وأنصار التسييل اليوم. أثناء فترات الركود، يتعين على السلطات أن تقدم الإغاثة للعاطلين عن العمل، وأن تحافظ على تدفق رأس المال والائتمان عبر الأسواق المالية عندما يتجمد الخوف. لكن سعيهم التجريبي الأخير لتحقيق نمو لا نهاية له هو أمر خيالي، وهو خطوة تؤدي إلى نتائج عكسية أكثر مما ينبغي. ويتعين عليهم أن يتوقفوا عن التحفيز أثناء فترات التعافي، وأن يتركوا الأسواق المالية حرة إلى الحد الذي يجعلها تتعثر في بعض الأحيان.
ورغم أن القادة يتحدثون في كثير من الأحيان عن الاقتصاد باعتباره «محركاً» أو «مكينة» خاضعة «للضبط الدقيق»، فإنه أشبه بالنظام البيئي الطبيعي الذي يؤدي تدخل البشر فيه إلى خطر كبير على النظام وأنفسهم.