عبد الله سليمان الطليان
ألفافيل (Alphaville) هي اسم المنطقة التي تقع في الغرب من مدينة ساوباولو تبلغ مساحتها 322581 متر مربع بالضبط أي ما يعادل مساحة أربعة وأربعين ملعب كرة قدم. ويحيط بها سور شاهق ومزود بأضواء كاشفة وأجهزة إلكترونية تفشى سر كل حركة: إنها فعلا المكان الأمن التي تهفو إليه نفوس سكان المدن، الذين يفرون من الجناة والعصاة المنتشرين في مراكز المدن؛ وبهذا المعنى فإن هؤلاء الفارين يتصرفون فعلا على النحو الذي تتصرف به، في المتوسط، العائلات في أوروبا أو في الولايات المتحدة الأمريكية في بعض الأماكن من الولايات المتحدة الأمريكية التي لا يزال الرخاء يعمها، فهذه العائلات تود الحياة من دون أن تكلف نفسها عناء النظر إلى حقيقة الواقع الاجتماعي السائد في وطنها.
وبهدف رصد كل من سولت له نفسه الدخول دونما ترخيص، يتجول في أرجاء ألفافيل، وعلى مدار الساعة، رجال الحرس، الذين يعمل غالبيتهم في صفوف الشرطة العسكرية أيضا، مستخدمين دراجات بخارية وعربات مزودة بالرصاصات المضيئة الدارجة الاستعمال لدى البحرية. إن حرس ألفافيل الخاص موجود في الحال في موقع الحدث، حتى إن كان مقتحم سور جتو الرفاهية قطة لا غير.
يقول مالك الحي: (أن الأثرياء فعلاً هم وحدهم القادرون على الاستعانة بالحرس الخاص)، مؤكداً على أن «ألفافيل ليست سوى هدف مستقبلي بالنسبة للطبقة الوسطى. يقول أحد الساكنين في الحي: (إن ولدي يستطيع أن يلعب ههنا اليوم كله، من دون أن ينتابني خوف من شيء) فحتى الأطفال الذين هم دون الثانية عشرة من العمر لا يُسمح لهم بتخطي البوابة الحديدية والخروج إلا في رفقة ولي الأمر، أما بالنسبة لمن هو دون سن الرشد، فإن الأمر يتطلب موافقة الأبوين الخطية.
ويتعين على كل زائر أن يثبت هويته، ولا يسمح له بالدخول إلا بعد التحدث بالهاتف مع ساكن الجنو المقصود والحصول على موافقته، ويجري تفتيش العربات تفتيشا دقيقا، كما يتلمس رجال الحرس أبدان موردي السلع وعمال البناء دائماً وأبدا خوفا من أن يكونوا قد سرقوا شيئا ما.
إن أهمية القوات الخاصة تكاد تكون بلا حدود. فخدم المنازل، الذين لا يشكل استخدامهم امتيازا تتنعم به الطبقة الراقية فقط في البرازيل، لا يجوز تعيينهم، إلا بعد موافقة قوات الحراسة، فسواء تعلق الأمر بعربية الأطفال أو بالخادمة في المطبخ أو بسائق السيارة، لابد من معرفة مسيرة حياتهم السابقة معرفة دقيقة من خلال ما لدى الشرطة العسكرية من أضابير، ويؤكد الشريك في ملكية الحي السكني Yojiro Takaoka على أنه: (لا فرصة عمل لدينا لمن سرق أو نهب شيئاً).
وبشأن السؤال عما إذا كانت هناك علاقة بين فيلم الخيال العلمي ألفافيل، الذي أنتجه المخرج السينمائي الفرنسي Jean Luc Godard قبل ثلاثين عاما، وصور فيه عالما يستخدم كل الابتكارات التكنولوجية لإخضاع المواطنين للرقابة التامة، يؤكد الرأسمالي الكبير، المشارك في ملكية الحي والمتحدر من أصول يابانية، على أن ألفافيل الحقيقية لا علاقة لها بالشريط السينمائي وأن الاسم قد خطر مصادفة على ذهن أحد المهندسين البرازيليين - وبهذا المعنى فإنه ليس سوى توارد خواطر عبر القارات.
لا يبيع Takaoka قطع الأراضي (إلا لأولئك الذين يتمتعون بالصيت الحسن). ويبلغ ثمن المتر المربع خمسمائة مارك - وهو مبلغ لا تستطيع دفعه إلا قلة ضئيلة ليس في البرازيل فقط، هذا البلد الذي يعتبر من مجموعة بلدان العالم الثالث.
إن ما أفرزه هذا المشروع من تميز اجتماعي، وهو مشروع يرى فيه Takaoka (حلا لمشاكلنا)، قد حاز نجاحا مخيفا، فهاك ما يزيد على اثنتي عشرة مما يسميه المواطنون المحليون بالجزرة الشبيهة بالفافيل، قد تم تشييدها فعلاً وهناك أخريات في طور البناء أو في مرحلة التخطيط. وبناء على ما يتوقعه شريك Takaoka أعني Alaquerque، فإنه بمستطاع مائة وعشرين ألف فرد أن يعيشوا في الفافيل وفي الجتو المجاور لها Alicia de Serra، اللتين تبلغ مساحتهما الإجمالية اثنين وعشرين كيلو متراً مربعاً.
وانتشرت ههنا المصانع والمكاتب والأسواق التجارية والمطاعم، التي تخضع هي أيضا للحراسة الصارمة، ولذا فإن المرء نادرا ما يرى الشرطة الحكومية المعروفة بالارتشاء والعجز عن أداء مهمتها، فبدلا من هذه الشرطة هناك أربعمائة رجل حراسة يحملون في أحزمتهم المسدسات بالإضافة إلى هذا تجول حول الجتو وحدات خاصة يحمل كل فرد منها في يده بندقية من نوع Taurus عيار (12) عمدا لكي يكون في الإمكان إصابة خمسة أو ستة أشخاص في وقت واحد، كما يشرح ذلك طواعية جوزيه کارلوس ساندورف José Carlos Sandorf، رئيس الوحدات المسؤولة عن الجهاز الأمني في الفافيل رقم واحد.
ويحق لأفراد الحراسة إطلاق النار على كل من يخترق الأسوار دونما عذر شرعي، حتى إن لم يهدد أحدا ولم يكن مسلحاً. (ففي البرازيل)، كما يقول Sandorf، لا يعاقب القانون أبدا من يقتل مقتحم داره.
(عمليا، فإن تلك حرب أهلية يشنها أولئك الذين يسيطرون على المال والسلطة، حماية لأنفسهم)، كما يقول Vinicius Caldeira Brant، السوسيولوجي لدى مركز التحليل والتخطيط البرازيلي (Cehrap). ويضيف Brant، الذي عانى من الهيمنة العسكرية على السلطة حتى عام 1985، قائلا: (في أوروبا يعيش الجناة خلف جدران السجون، أما عندنا فإن الأثرياء هم الذين يعيشون هناك)، ويبرر المالك الشريك Takaoka ذلك فيقول: وإن ألفافيل ضرورة يحتمها السوق، وبالتالي فإننا لا نحقق سوى الشروط الضرورية لنعم العالم الفاني.
وإذا كان حراس الفافيل لم يستخدموا أسلحتهم إلا في حالات نادرة حتى الآن، (فما ذلك إلا لأن الغوغاء على علم بجدارة الحراسة. كما يقول مسؤول الحماية Sandorf . أما بالنسبة لرب عمله الآخر، أي الشرطة العسكرية، فإن الأمر يختلف، فخيوط العنكبوت لا تتجمع على فوهات أسلحتهم أبدا، وذلك لأن الشريعة السائدة في الشارع هي: من هو أكثر قدرة، يذرف دموعا أقل. ولكن، ماذا سيحدث لو هاج الجياع وماجوا في كل جهة من حول ألفافيل؟ أمنيتي أن لا تكون لدي إجازة في ذلك اليوم، رد Sandorf، وقد علت وجهه ابتسامة تعكس حرارة أمنيته هذه، فعند ذلك سيكون بوسعي أن أصول وأجول.
ألفافيل - أهذا هو النموذج الذي يتطلع إليه العالم؟ منذ أخذت نتائج العولمة تمزق النسيج الاجتماعي في البلدان أيضا، التي لا تزال تنعم بالرفاهية، يتزايد باستمرار عدد الجزر الشبيهة بهذا الجتو الانعزالي: في جنوب أفريقيا على سبيل المثال، وحول Kapstadt ومنطقة Stellenbosch المختصة بزراعة العنب، على وجه التحديد، حيث لا يزال التمييز العنصري والتباين في الثراء يتعمقان، على الرغم من انقضاء التمييز حكوميا؛ وطبعا في الولايات المتحدة الأمريكية أيضا، حيث أخذت الأسوار العالية المحيطة بالمنازل الواقعة في Beverly Hills ووحدات الحراسة الخاصة، تنتشر لتعم ضواحي Buckhead في أتلانتا أو Mirinda في وإسبانيا والبرتغال. Berkeley أيضا؛ كذلك الحال في فرنسا، وفي المناطق الساحلية من إيطاليا، ونفس الأمر ينطبق على نيودلهي وعلى المنازل السكنية والعمارات المحمية من قبل الحراس في سنغافورة، لا، بل حتى تلك الجزر التي كانت في يوم من الأيام سجونا يقبع فيها السجناء السياسيون الذين ناضلوا من أجل العدالة الاجتماعية ، قد عدت الآن مأوى لأولئك الأثرياء الذين يبخلون في دفع كلفة كبريائهم، وخير شاهد على ذلك جزيرة Grand llha، هذه الجزيرة الرائعة الواقعة قبالة الساحل من أمريكا الجنوبية.
وحتى بالنسبة لألمانيا لم تعد القيم البرازيلية أمراً غريباً: فالرغبة في الحصول على مستثمرين تسببت في أن يكون Heiligendam، أقدم مصيف ساحلي في ألمانيا من حصة شركة العقارات Fundus المقيمة في مدينة كولون، وفي ما مضى من الزمن، أي قبل أن تتدهور، كانت هذه المدينة، الواقعة على ضفاف بحر البلطيق وبالقرب من مدينة Rodesk، تسمى «المدينة البيضاء» بسبب ما فيها من عشرات الفيلات ذات الطابع الكلاسيكي، كانت مصيف النبلاء المفضل أيام حكم القيصر ولهلم. أما اليوم فإنه صار يراد منها أن ترمم وأن يعمر فيها ما يتراوح بين المائة والخمسين، والمائتين والخمسين فيلا راقية إضافية مع فندق جديد لكي تكون المأوى الراقي الجديد، الذي تنعزل فيه الطبقات الراقية وفئات المال الكبير الراغبة في التواري عن الأنظار، وإن كانت تتعطش شوقا لدفء الشمس.
وكان الشرط هو تحويل مسار الشارع العام إلى خارج المدينة وضرورة وضع قيود على الراغبين في الإقامة. ومن حق المرء أن يسأل هنا، عما إذا كان ثمة جدار جديد يشيد في الجانب الشرقي من ألمانيا شبيه بجدار برلين؟ المهم هو أن ثمة شيئا يحدث هنا في نهاية المطاف، كما يقول جونتر شميدت Guenter Schmidt، المستأجر الذي أبلغ بانتهاء استئجاره المقهى الخرب الذي يعيش مما ينفقه زواره من طلبة معهد الفنون الجميلة على وجه الخصوص، هؤلاء الطلبة الذين لا يزال يسمح لهم بالإقامة ههنا. إنه لأمر طبيعي أن يحظى بحراسة خاصة من هو بمنزلة خاصة.
يعتبر هذا أحد مظاهر الرأسمالية التي تخلق فجوة اقتصادية كبيرة داخل المجتمعات، تؤثر على الواقع الاجتماعي وكذلك الأمني.