محمد بن إبراهيم الحسين
الذكاء من أرقى صفات الكائن الحي وأسمى ملكاته، ومن أقوى أسلحته، ومن أهم أسباب تكيفه مع بيئته وبقائه. ويرتبط الذكاء بالدماغ ويوصف بأنه منتجٌ من منتجاته، وأنه بلغ أعلى مستوياته في الكائنات ذات الأدمغة المتطورة وهي الرئيسيات وعلى رأسها الإنسان، إلا أن بعض المشاهدات تثبت بأن الذكاء وجد في الكون قبل أن يخلق الدماغ، وأن وجوده ليس مرتبطاً بوجود الدماغ وإنما يستقل عنه أحياناً، وفيما يلي بعض الأمثلة على أنواع من الذكاءات المستقلة عن الأدمغة..
ذكاء الحيوانات البدائية:
تثبت الملاحظات بأن الذكاء ليس منتجاً حصرياً من منتجات الأدمغة ولا نشاطاً محصوراً داخل الجماجم؛ فقنديل البحر عبارة عن قرص شفاف هلامي بسيط التركيب ليس له دماغ ولا حتى رأس ولا حواس ولا جهاز عصبي ولا جهاز هضمي، ورغم ذلك فهو من أقدم الحيوانات الموجودة على الأرض، وجد منذ أكثر من 700 مليون عام ولا زال يعيش ويتكيف مع البيئة؛ مما يعني أن أقدم أنواع الذكاء وجدت في أقدم الكائنات الحية التي لا تمتلك أدمغة!.
ذكاء الحشرات:
الحشرات لا تمتلك أدمغة ورغم ذلك تعتبر من أبرز الشواهد على تواجد الذكاء بمعزل عن الدماغ نظراً لعدم وجود دماغ لها وإنما مجرد كتل من نهايات الأعصاب تستخدمها للنشاطات الحركية والإرادية واللاإرادية وبعض النشاطات الغريزية التلقائية المخزنة على شكل كيماويات عصبية تنطلق عند الحاجة لحث بعض النشاطات اللاواعية، ورغم ذلك تبدي الحشرات أنواعاً من التفكير الذكي الذي ربما يعجز عنه بعض البشر المغرورين بأدمغتهم وبذكائهم الذي يعتقدون أنه لم يخلق إلا معهم؛ حيث يوجد أنواع من الدبابير تلجأ لحيلة عجيبة لإيجاد حضن لبيوضها ومصدر غذاء ليرقاتها، حيث تقوم إناثها بمهاجمة بعض أنواع العناكب ولدغها لدغات في مواقع محددة تستهدف جملها العصبية لشلها شللاً تاماً دون إماتتها لكي تبقى سليمة ولا تتعفن أو تجف إذا ماتت، ثم تقوم بعد ذلك بوضع بيوضها في جسد تلك الحشرة المشلولة مما يوفر لها الدفء والحماية في ذلك الجسد الحي المشلول لحين فقسها، وعندما تفقس تلك البيوض تتغذى على أحشاء تلك الحشرة الضحية من الداخل حتى لا يبقى سوى هيكلها، وعندما تكبر تطير مغادرة ذلك الحضن الدافئ الذي حضنها بيوضاً ثم قامت بالتهامه بعد فقسها لتطير وتتزاوج ثم تبحث إناثها عن عنكبوت تلسعه وتضع بيوضها في جسده بنفس الطريقة. ويوجد نوع من الفراشات عندما تضع يرقتها فإن اليرقة تكون في طور الشرنقة ولا تتحرك مما يجعلها هدفاً سهلاً وعرضةً لهجوم الطيور، ولذلك فإن أنثى تلك الفراشة تقوم بقص عدد من ورقات شجرة كبيرة بعد أن تثبت طرفها الآخر في جذع الشجرة بمادة تفرزها ثم تترك تلك الأوراق إلى أن تجف فتلتوي كالأسطوانة، وتقوم بقص وتهيئة 6 أو 7 ورقات على الأقل وتضع شرنقتها في إحداها، فإذا فتش الطير في الأوراق فإن نسبة نجاحه في الحصول على الشرنقة اللذيذة يكون ضئيلاً لا يزيد عن محاولة واحدة ناجحة من بين كل سبع محاولات فاشلة، وهذا احتمال ضئيل يجعل العصافير حتى لو نجحت في العثور على الشرنقة مرة واحدة إلا أنها ستواجه بعدد من خيبات الأمل في المستقبل، فيعتريها الملل وتيأس وتكف عن إضاعة وقتها في البحث بين الأوراق الجافة، لأنها ستعتقد أن وجود الشرنقة في إحداها كان صدفة، وهذا الفعل يتطلب الإلمام بعدد من العلوم والمعارف مثل علم النبات وعلم المناخ وعلم الإحصاء بل وحتى علم النفس!؛ فماذا يمكن أن نطلق على الوعي بتلك التأثيرات البيئية والإلمام بتلك المعلومات والمعرفة بتلك اعلوم المتقدمة، وبماذا نسمي هذا الفعل الذي ربما يعجز عنه أذكى البشر؟!؛ إنه بلا شك يعتبر نوعاً راقياً متطوراً من أنواع النشاطات الذهنية، وهو من أعلى درجات الذكاء الذي يسود الاعتقاد بأنه لا يصدر إلا عن دماغ متطور نعتقد أننا نمتلك أكمل صوره.
ويوجد نوع من الفراشات الاستوائية تطورت لديها مواد كيميائية تجعلها سيئة الطعم فتتجنبها الطيور ولا تأكلها، أما الأنواع الأخرى من الفراشات فلا توجد لديها تلك المواد فتأكلها الطيور، أما الفراشات التي لا تمتلك تلك الخاصية فقامت بتقليد نفس شكل الفراشات ذات الطعم السيئ ونفس ألوانها ونقاطها ذات الأشكال المميزة في تمويه متقن، مما جعل الطيور تتجنبها ولا تأكلها رغم أن طعمها جيد وذلك بسبب شكلها المقلد الذي يشبه شكل الفراشات ذات الطعم السيئ. أما أعجب الأمثلة على التمويه الجماعي الذي يستلزم تناسقاً كبيراً وانتظاماً دقيقاً فتتجسد في حشرات تسمى (الحشرات المسطحة) التي تتجنب المفترسات من الطيور وغيرها بطريقة عجيبة حيث تبحث عن أغصان بلا زهور ثم تجتمع على رؤوس تلك الأغصان مترتبةً على شكل زهور معينة من النوع الذي ينتشر في البيئة التي تعيش فيها تلك الحشرات وتسمى (زهور المرجان متعددة الألوان) وبذلك التمويه المتقن تسلم تلك الحشرات من الطيور التي أصبحت تراها على شكل زهور لا حشرات لذيذة، وعندما يتم لمس تلك الزهور اعتقاداً بأنها زهور حقيقية تتطاير الحشرات وتتفرق، والعجيب أنها تعود لتصطف مرةً أخرى وتتراكب فوق بعضها البعض وتتراصف بجوار بعضها البعض كل حشرة في مكانها المخصص لتبدو بنفس شكل الزهرة تماماً، كما أن تلك الحشرات تختلف ألوانها فبعضها صفراء وبعضها خضراء وبعضها قرمزية وهي نفس ألوان تلك الزهور، فتستغل ألوانها وتترتب بطريقة معينة لتظهر بنفس ألوان الزهرة، فتراها الطيور زهوراً كبيرة غير قابلة للأكل لا حشرات صغيرة وضعيفة يمكن التهامها، وهذا النوع من التمويه لا يمكن أن يفسر إلا كنوع من أنواع الذكاء، فالانتخاب الطبيعي يمكن أن يفسر ظهور حشرة واحدة أو نوع من الحشرات مثل الفراشة على شكل زهرة بالصدفة نتيجة زمن طويل من التطور وعدد كبير من الطفرات، ولكنه لا يمكن أن يفسر هذه الخطة التي تحكم مئات الحشرات المنفصلة المستقلة بحيث تؤدي كل واحدة منها دورها المحدد وتنتظم في مكانها المطلوب لتظهر تلك الحشرات على شكل زهرة المرجان متعددة الألوان تماماً رغم أن الحشرات لا تعي ما تفعل ولا ترى نفسها ولا ترى الشكل الذي رسمته عندما اجتمعت ولا تدرك أن الشكل الذي تشكله بأجسامها سيظهر كشكل الزهرة الجميلة، فالانتخاب الطبيعي يفشل في تفسير تلك الآلية لأن من مبادئه أنه يعمل على الأفراد لا على الجماعات، حيث ينتخب الأصلح من الصات في كل فرد، ولكنه لا يعمل على المجموعات فينتخب منها مجاميع تنتظم في نسق خاص لتؤدي دوراً هارمونياً متناسقاً كما تفعل تلك الحشرات!.