د. محمد بن إبراهيم الملحم
تتحاور معه ولا تجد أنك تصل إلى شاطئ أبدا.. ذلكم هو العقل المغلق، وقد ينغلق هذا العقل على فكرة دينية أو عادة موروثة أو تصور اجتماعي أو حتى على فكرة علمية، ودعونا نبتعد عن الحساسيات وإشكالات نحن في غنى عنها ونأخذ آخر هذه الـ (أو) وات وهو الانغلاق على فكرة علمية، وما ظواهره وآثاره وما هي أسبابه وذلك كي نفهم هذا العالم الغريب الذي اسمه «عقل مغلق». فعندما توقف العلم عند قوانين نيوتن توقفت معه الفيزياء وتوقف التقدم العلمي وظلت التطبيقات التقنية هي رحلة تطوير وتحسين فقط حيث تتحسن معها حياة الناس بقدر نجاحات وربما قفزات عمليات التحسين تلك، ولكنها أيضا قفزات محدودة لم تصل إلى ما وصلت إليه بعد ذلك حينما توفر العقل المنفتح والمتطلع إلى رؤية «مختلفة» عن المألوف فانفجرت الفتوحات العلمية بدءا من النظرية النموذجية للذرة وانتهاء بفيزياء الكم واستنتاجات النظريتين النسبية الخاصة والعامة واللتين كانت أهم تطبيقاتهما: الطاقة النووية من الأولى وتطوير ال جي بي إس GPS من الثانية، فما أتت به نظريات أينشتاين Einestien من فتوحات علمية ما هي إلا نتيجة تمرد عقله على الفكرة السائدة وتنكره لقداسة ما يعتنقه المجتمع العلمي من اعتقادات مقطوع بها في نظرتهم للكون والقوى المؤثرة به.
هذا المثال القوي جداً مع استهلال هذه المقالة يقول في تضاعيفه شيئا مهما، وهو أن التحجر العقلي والانغلاق الذهني حول فكرة ما هو ليس بالضرورة من لوازم الجهل وعدم العلم، فإنك تلاحظه عند تأمل موقف أولئك العلماء والأساتذة الفيزيائيين والرياضيين المعاصرين لأينشتاين Einestien وشرودينجر Schrodinger ونيلز بور Niels Bohr فإنهم لم يكونوا أقل منهم في قوة الذكاء والقدرة على التفكير والتمكن من الفهم والاستيعاب بل بعضهم ربما فاق هؤلاء في قدراتهم الرياضية والحسابية وما يكتنزونه من معرفة علمية فكيف انغلقت أذهانهم على ما ورثوه من فكر علمي وتوقفوا عنده! إنها قداسة الفكرة، سواء أفكار العالم نفسه أو الأفكار التي تعلمها من سابقيه والتي ظلت تعمل أجيالاً عدة فعندما يُلبِسُها العالم القداسة فلن يجرؤ عقله على الدخول في مسارات جديدة لاستكشاف النسخة الأكثر تطوراً منها أو ربما تعديل أساس الفكرة، وسبب هذا الانغلاق على قداسة الفكرة هو غياب صفة الإبداع عند هؤلاء فهم لا يتمتعون بخصائص الشخصية الإبداعية والتي تمكنها من التمرد على الفكر السائد والدخول في ديناميكية التجديد والتحديث مهما كانت مغرقة في الغرابة وابتعدت عن ساحل المألوف. هذه السمات موهبة توجد في الإنسان وتنمو عبر الزمن من خلال ظروفه الاجتماعية والتربوية لتصل ذروتها في فترة معينة تمكنه من توظيف ملكاته الذكائية وخبراته العلمية أو المهنية أو اللغوية أو بأي مجال تخصص فيه فينطلق بها مطوراً ومكتشفاً ومحدثاً.
سأستغرق في هذا المسار حديثي عن الإبداع والانفتاح العلمي والاكتشاف وكيف يمكننا أن نصنع العالِم والمكتشف من خلال اتباع مناهج الإبداع وفهم ملامحه المهمة التي اتسم بها أولئك الأفذاذ الذين غيروا وجه العالم، ما هي مواصفات الشخصية العلمية وكيف يمكن أن يوجد في نفس الفرد عقلان أحدهما منفتح وآخر منغلق في نفس الوقت، فللحديث بقية.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً