د.أحمد بن عثمان التويجري
تناقلت قنوات فضائية ومواقع تواصل اجتماعي كثيرة خلال الأيام الماضية فتاوى وآراء لفقهاء وباحثين ودعاة وأشباه فقهاء ودعاة بل وهمل من الناس تجيز الحج بدون الحصول على تصريح بذلك من السلطات السعودية، وتنتقد بشدة عدم سماح المملكة لكل راغب في الحج بالحج مهما كان عدد الراغبين. إن خطأ هذه الآراء والفتاوى من النواحي السياسية والإدارية والتنظيمية واضح وضوح الشمس في رابعة النهار ولا يحتاج إلى تدليل أو تفصيل لبيان مخالفته للصواب، فمعلوم لكل ذي بصيرة أنه لو ترك الحبل على الغارب في هذا الشأن وبخاصة في هذه الأيام التي تيسرت فيها أمور الحج لأسباب من أهمها ما قامت وتقوم به المملكة العربية السعودية من جهود جبارة وما بذلته وتبذله من إنفاق هائل على كل ما له علاقة بالمقدسات والمشاعر ورعاية المعتمرين والحجاج، لتعطل حج الغالبية العظمى من قاصدي البيت الحرام ولتعرض كثير منهم للأذى، بل للهلاك بسبب ما هو متوقع من التزاحم والفوضى وعدم التوازن بين أعداد الحجاج وحجم الإمكانات وطاقات استيعاب المقدسات والمشاعر. غير أن الأمر الذي يحتاج إلى بيان وتوضيح هو الموقف الشرعي من هذه النازلة والتأصيل الأصولي والفقهي لها، وتوضيح مكامن الأخطاء الفقهية في فتاوى من أجازوا الحج بدون تصريح، وهذا هو المرجو تحقيقه في هذه العجالة بإذن الله وتوفيقه.
لقد بنى من أفتوا بجواز الحج دون تصريح فتاواهم على قول الله عز وجل: «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا»، فقالوا إن مفردة «سبيل» جاءت منكّرةً غير معرفة، فهي لذلك تشمل كل سبيل ويدخل في ذلك السبيل النظامي وغير النظامي. بل صرح بعضهم بأن من توافرت لديه شروط الاستطاعة المتعارف عليها بين الفقهاء فإن له أن يحج بدون الحصول على تصريح ولو تحايل لتحقيق ذلك. وهذا فهم عجيب، إذ لو أخذناه بإطلاقه لقلنا أيضا: إنه إذا كان الحج لا يتيسر إلا بالسرقة أو الغصب فإن للحاج أن يسرق ويغصب لأدائه، وهذا قول لم يقل به أحد بل لا يمكن أن يقول به أحد. وعلى الرغم من ذلك، ولو سلمنا جدلاً بصواب فهم من قالوا: إن عبارة «من استطاع إليه سبيلا» تشمل كل سبيل دون تحديد، وهو فهم غير صائب دون أدنى شك، فإن من المعلوم أن الأحكام الشرعية لا تبنى على مفردات النصوص بمعزل عن النصوص الأخرى ذات الصلة بالمسألة، ولا بمعزل عن كليات الدين ومقاصده والقواعد الأصولية والضوابط الشرعية التي تجب مراعاتها عند إصدار أي حكم من الأحكام.
إن من أعظم وأهم أنواع الفقه ما تعورف على تسميته بفقه المآلات، وهو الفقه الذي ينظر إلى مآلات الأحكام أو الفتاوى عند تطبيقها في الواقع. وأول من وضع أسس هذا الفقه وطبقه أكمل تطبيق خير الأولين والآخرين نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فقد روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن جابر بن عبدالله حديثاً جاء فيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يضرب عنق المنافق عبد الله بن أبي بن سلول عندما قال ذلك المنافق: «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: «دعه، لا يتحدث إلى الناس أن محمداً يقتل أصحابه»، ومن ذلك ما رواه الإمام مسلم – رحمه الله- عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك، لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين: باباً شرقياً وباباً غربياً، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة»، فقد نظر عليه الصلاة والسلام في الحالتين إلى مآلات الفعل فدرأ المفسدة الأشد بالمفسدة الأهون وقدم المصلحة الكبرى على المصلحة الصغرى. وقد تولد عن هذا الأصل العظيم قواعد أصولية معتبرة منها قاعدة «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»، وقاعدة «الأمور بعواقبها»، وقاعدة «العبرة بالمآل لا بالحال» وغيرها مما ليس هذا مقام بسطه. وقد كان من أهم من تطرق لفقه المآلات وأصل له من علماء الأصول الإمام الشاطبي -رحمه الله-، فقد جاء في كتابه الموافقات ما نصه: «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل»، وقال كذلك: «والحاصل أنه مبني على اعتبار مآلات الأعمال؛ فاعتبارها لازم في كل حكم على الإطلاق». (الموافقات، ج 5 ص 177). ولو تأمل المنصفون ممن أفتوا بجواز الحج دون تصريح في مآلات فتاواهم لما تسرعوا بإصدارها، ولأدركوا أن فتح الأبواب على مصاريعها لكل من أراد الحج دون ضوابط فيه فتح لأبواب فساد عظيمة وتحريض على الفوضى، بل فيه تشجيع على ارتكاب محرمات تعد من الكبائر منها الكذب والتزوير والتدليس، بل منها التحريض على الإلقاء بالأنفس إلى التهلكة، ولعل حوادث من تعرضوا للهلاك ممن حجوا دون تصريح هذا العام أقرب دليل على ذلك.
إن من الأخطاء التي وقع فيها من أفتوا بجواز الحج دون ترخيص تقوقعهم على مفهوم معيار الاستطاعة الذي كان يتناسب مع الأزمنة السالفة عندما كانت الحياة بسيطة وأعداد الحجاج قليلة، وهو توافر الزاد والراحلة، ولم يلتفتوا إلى ما طرأ من مستجدات ومشكلات وتعقيدات مرتبطة بالحج في هذه الأزمنة توجب توسيع دائرة مفهوم الاستطاعة. ولئن كان الفقهاء الأقدمون قد عدوا تخلية الطريق، أي سلامة الطريق المؤدية إلى الحج، من شروط الاستطاعة، فقد قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله- في المغني: «واختلفت الرواية في شرطين، وهما؛ تخلية الطريق... وإمكان المسير... فروي أنهما من شرائط الوجوب، فلا يجب الحج بدونهما»، فإن من باب أولى أن نعد الحصول على التصريح بالحج شرطاً جوهرياً للاستطاعة لما فيه من ضمان لأمن الحجاج وسلامتهم وراحتهم بصورة أكبر وهذه مجتمعة أهم من مجرد تخلية الطريق. كما أن مما وقع فيه من أفتوا بجواز الحج دون تصريح من أخطاء عدم التفاتهم إلى مقاصد قرار منع الحج دون الحصول على التصريح ومبرراته. فإن القرار لم يأت من فراغ، ولم يبن على تعسف أو أهواء أو مواقف سياسية على الإطلاق، وإنما كان المقصد الأعظم والأول والأخير منه أمن الحجاج وحمايتهم وضمان سلامتهم، إلى جانب ضمان أن تتوافر لهم الرعاية الكاملة صحياً واجتماعياً ونفسياً ليؤدوا مناسكهم على أكمل وجه. ومن المعلوم أن الأمور بمقاصدها فقد قال المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث المشهور المتفق عليه: «إنما الأعمال بالنيات»، وهذا أصل من أعظم أصول الشريعة، قال الإمام السيوطي في الأشباه والنظائر: «اعلم أنه قد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم حديث النية. قال أبو عبيدة: ليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة منه، واتفق الإمام الشافعي وأحمد بن حنبل وابن مهدي وابن المديني والدارقطني وغيرهم على أنه ثلث العلم». كما إن من أهم مبررات الإلزام بالحصول على التصريح بالحج كثرة من كانوا يحجون تنفلاً وبخاصة من مواطني المملكة العربية السعودية لقربهم من المشاعر وسهولة وقلة تكاليف الحج عليهم، الأمر الذي غالباً كان على حساب فرص إخوانهم من المسلمين الآخرين ممن لم يؤدوا فريضة الحج.
إن كل مطلع على قرار منع الحج دون تصريح يعلم أنه بني علي أسس شرعية متينة وقواعد أصولية راسخة من أهمها قاعدة «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»، فما من شك في أن من حق وصالح كل من لم يحج حجة الإسلام أن يتاح له أن يؤدي ما فرضه الله عليه من حج بيته، ولكن فتح الباب على مصراعيه في هذا الشأن مع تيسّر وسائل النفل يؤدي حتما إلى توافد أعداد كبيرة من الحجاج بأكثر مما تتحمله مساحات الحرم المكي والمشاعر ووسائل النقل التي تربط بينها، وأكثر مما يمكن توفيره للحجاج من احتياجاتهم الأمنية والمعيشية والصحية خلال أيام الحج، الأمر الذي يؤدي دون شك إلى تعريضهم إلى أخطار بل إلى مهالك لا يعلم مداها إلا الله عز وجل، وهذا أمر فيه فساد عظيم توجب الشريعة درأه والحيلولة دون وقوعه، وقد كان اشتراط التصريح أفضل حل لمواجهته. ويندرج في هذا الشأن من القواعد الشرعية قاعدة «إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدم أرجحهما»، وقاعدة «يقدم خير الخيرين، ويدفع شر الشرين»، وقاعدة «يقدم عند التزاحم خير الخيرين، ويدفع شر الشرين». كما أن من القواعد الشرعية التي بني عليها اشتراط التصريح للحج قاعدة «المباح المفضي إلى حرام حرام»، وما من شك في أن عدم تحديد عدد الحجاج المسموح لهم بالحج كل عام يفضي لا محالة إلى أمور محرمة من أكبرها وأهمها هلاك الأنفس وتعطيل إتمام الشعائر الواجبة إضافة إلى تحويل الحج من شعيرة إيمانية روحانية لذكر الله وتوحيده إلى معترك بدني من أجل البقاء على قيد الحياة.
ومن الأصول التي أسس عليها المنع أصل الاستحسان الذي هو الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي، وقد أثر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان ينهى عن التمتع بالحج والعمرة وهو أمر مشروع وسنة نبوية لمصلحة جزئية كان يراها وهي ألا يهجر الحرم في غير أشهر الحج. وغني عن القول إن تقييد المباح للمصلحة العامة أمر مشروع وحق من حقوق بل واجب من واجبات ولاة الأمور، وصلى الله وسلم على خير الأولين والآخرين القائل: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق»، والقائل: «من يرد به خيرا يفقهه في الدين، والذي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، والحمد لله من قبل ومن بعد.