عبدالرحمن الحبيب
خلال اثني عشر شهراً الأخيرة، من المحتمل أنك استهلكت عشرة آلاف قصة خبرية، بمعدل ثلاثين خبراً في اليوم، كما كتب الكاتب السويسري رولف دوبيلي وهو مفكر إداري، نال شهرة عالمية واسعة بسبب كتابه «The art of thinking clearly» (فن التفكير بوضوح)، الذي يكمل ويقول: كُن صادقاً وأميناً مع نفسك ضع عنواناً واحداً من هذه الأخبار، واحداً فقط، جعلك تتخذ قراراً أفضل لحياتك، أو لمهنتك، أو لتجارتك، بالمقارنة فيما لو لم تسمع تلك الأخبار. لا يوجد شخص سألته قد تمكن من تسمية أكثر من قصتين خبريتين مفيدة من بين عشرة آلاف قصة. ومع ذلك، فإن وكالات الأخبار ومنظموها يجزمون ويؤكدون لك أن معلوماتهم وأخبارهم تعطيك فرصة إيجابية للمنافسة في الأعمال والحياة. الكثيرون يقعون في الفخ، فاستهلاك الأخبار بهذه الطريقة يمثّل فرصة سلبية للمنافسة. لو كانت الأخبار تساعد الناس على المنافسة لكان الصحفيون في قمة هرم الرواتب، ولكنهم ليسوا كذلك، بل على العكس.
هذا الكلام قيل قبل أكثر من عشر سنوات عندما كان الناس شغوفين بالأخبار، إنما في الوقت الراهن تشير دراسة عن معهد رويترز بجامعة أكسفورد، إلى أن المزيد من الناس يبتعدون عن الأخبار، إذ قال ما يقرب من أربعة من كل 10 أشخاص في جميع أنحاء العالم إنهم يتجنبون الأخبار أحيانًا أو في كثير من الأحيان، مقارنة بحوالي 3 أشخاص عام 2017.
وخلاصة الدراسة أن المزيد من الناس يبتعدون عن الأخبار، ويصفونها بأنها محبطة ومزعجة ومملة. ما السبب؟ يجيب التقرير بأن وباء كورونا والحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط ربما ساهمت في رغبة الناس في تجنب متابعة الأخبار، حتى وصل تجنب الأخبار الآن إلى مستويات عالية قياسية.
شركة YouGov قامت باستطلاع آراء 94.943 شخصًا بالغًا من 47 دولة في شهري يناير وفبراير من أجل تقرير الأخبار الرقمية لهذا العام. النتيجة بأن الاتجاه العام لمتابعة الأخبار لا يزال ينخفض بشدة؛ ففي جميع أنحاء العالم، قال 46 % من الأشخاص إنهم مهتمون بالأخبار، بانخفاض عن 63 % في عام 2017 . ووفقاً للاستطلاع، فإن النساء والشباب كانوا أكثر عرضة للشعور بالإرهاق بسبب كمية الأخبار المنتشرة حولهم.
وقال الباحث الرئيسي للاستطلاع، نك نيومان: «من الواضح أن الأجندة الإخبارية كانت صعبة بشكل خاص في السنوات الأخيرة.. لقد مررنا بالوباء والحروب، لذلك يعد رد الفعل الطبيعي للناس أن يبتعدوا عن الأخبار، سواء كان ذلك لحماية صحتهم العقلية أو ببساطة الرغبة في الاستمرار في بقية حياتهم.. إن أولئك الذين يختارون تجنب الأخبار بشكل انتقائي يفعلون ذلك في كثير من الأحيان لأنهم يشعرون «بالعجز».. هؤلاء هم الأشخاص الذين يشعرون أنه ليس لديهم سيطرة على الأشياء الهائلة التي تحدث في العالم.. بعض الناس يشعرون بالإرهاق والارتباك بشكل متزايد بسبب كمية الأخبار المنتشرة، بينما يشعر آخرون بالإرهاق من السياسة.
يقول رولف دوبيلي إن مخ الإنسان يتفاعل بشكل غير متناسب مع الأنواع المختلفة من المعلومات. التفاصيل الفاضحة، الصادمة، المستندة على الناس، العالية الصوت، السريعة التغير كلها تحفزنا، بينما تلك الموجزة، العميقة، المركبة، غير المجهزة لا نتحمس لها. منتجو الأخبار يركزون على ذلك.. فمن الوقائع يلتقطون القصص، يبهرجون الصور ويثيرون مشاعرنا كي يلفتوا انتباهنا. تذكَّر النموذج التجاري للمعلنين، إذ يشترون حيزاً من الوقت في دائرة الأخبار على أساس أن إعلانهم التجاري سوف يُرى. لذا، فإن الفصيح، المركب، المختصر، العميق يجب أن يُقصى بشكل منهجي، حتى لو كانت القصة التي تم إقصاؤها أكثر اتصالاً بحياتنا ولفهمنا للعالم. ونتيجة لهذا النمط من استهلاك الأخبار، نحن نمشي عبر خريطة عقلية مشوهة للمخاطر والتهديدات التي فعلاً تعترضنا، حسبما يقول دوبيلي.
دوبيلي قام بتجربة غريبة مثيرة، قد يعدها بعضنا ضرباً من الجنون.. حيث توقف عن قراءة وسماع الأخبار قبل ثلاث سنوات من تأليف كتابه عام 2013 .. يقول في المقال الأخير من كتابه: ألغيت الصحف والمجلات، أغلقت التلفزيون والراديو، وإعلانات الأخبار من الآيفون. لم ألمس أية صحيفة تعرض علي، والتفت في الاتجاه الآخر عندما تقدم الصحف في الطائرة. في الحقيقة، الأسابيع الأولى كانت صعبة.. صعبة جدًا.. كنت باستمرار خائفاً من أن أفقد شيئًا ما، لكن بعد مدة حصلت على نظرة جديدة للحياة. النتيجة بعد ثلاث سنوات: أفكار واضحة، بصيرة أكثر قيمة، قرارات أفضل، ومزيد كبير من الوقت. إنما الأفضل أنني لم أفقد شيئاً مهماً. شبكة علاقاتي الاجتماعية - ليس الفيسبوك، بل تلك الموجودة في أرض الواقع المتكونة من لحم ودم من الأصدقاء والمعارف - عملت مثل فلتر للأخبار وحافظت علي متواصلاً ومتابعاً لما حولي.
بعد تجربته المثيرة في الانقطاع عن الأخبار وفي تأليف الكتاب، يتوقع دوبيلي ساخراً بأن إدارة ظهرك للأخبار مفيد بمقدار تصحيحك للأخطاء المليئة في كتابه.. يقول: أركل عادتك في متابعة الأخبار.. أركلها بالكامل.. وبدلاً من ذلك، أقرأ مقالات طويلة عميقة أو كتب.. نعم، لا شيء يضاهي الكتب لفهم العالم.