د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
يعتبر البعض أن صعود اليمين في أوروبا يهدّد بقلب الموازين بعدما اكتوى بالسياسات الليبرالية، جعل من أوروبا قطباً جاذباً للمهاجرين لتهديد الأمن والرخاء، قد يبعثر الأوراق في أوروبا، ويوقف الطلاق الأوروبي مع روسيا، الذي جرده من الغاز الروسي الرخيص، والحصول على الغاز الأمريكي بخمسة أضعاف الغاز الروسي، مما هدّد التنافسية الأوروبية.
لا تزال روسيا تمثّل 15 في المائة من إمدادات الغاز الروسي في أوروبا، وفي شهر مايو 2024 استوردت أوروبا غاز من روسيا أكثر من الغاز الأمريكي للمرة الأولى منذ سبتمبر 2022 عندما تفوقت أمريكا على روسيا في تصدير الغاز المسال إلى أوروبا، إذ انخفض الغاز الأمريكي 14 في المائة من إمدادات أوروبا منذ ما يقرب من عامين وسط مشاكل في منشأة أميركية للغاز الطبيعي المسال، أي أن الاتحاد الأوروبي تلقى صفعة من أمريكا بعدما تركته في منتصف الطريق عقب الحديث عن تحجيم إرادات روسيا من أجل عرقلة مواصلة روسيا حربها في أوكرانيا.
أوروبا تائهة في الحرب الروسية الأمريكية على الأراضي الأوروبية ومنقسمة بل منقسمة على نفسها في زمن تغير المفاهيم وتبدل السياسات الكبرى والاستسلام للتسويق السياسي، في ظل بحث أوروبا عن مدى استقلال القرار الأوروبي عن القرار الأمريكي، وخصوصاً أنها لم تنجح في فرض الوطنية للحفاظ على تماسك هذا الاتحاد.
الانتخابات هي التي تحدد مسارات مهمة جداً على رأسها ملف الهجرة أحد أبرز الهوامش في الانتخابات الأوروبية بجانب السياسات الخارجية المتعلقة بالحرب الروسية في أوكرانيا التي جعلت أوروبا اقتصادياً كمن رجل أطلق النار على قدميه، لذلك تعتبر الخيارات الاقتصادية للدولة القومية القادمة في أوروبا بفرض العقلانية في إعلاء مصالح الدولة القومية بعيداً عن التجاذبات السياسية والضغوطات الخارجية الأمريكية، ما يعني عودة أوروبا طاقوياً بشكل تدريجي نحو روسيا بسبب أن الخيارات ليست عديدة، بل محدودة جداً بالنسبة لأوروبا.
تستثمر الولايات المتحدة تحدي الجغرافيا التي تعاني منه أوروبا، فروسيا استطاعت تغيير الجغرافيا عبر الحرب في أوكرانيا، لكن لا تود أوروبا تغيير خريطة الجغرافيا على غرار هتلر عبر الحرب، فهي تقع بين روسيا في الشرق وأمريكا في الغرب، عوضاً عن ذلك ستكون عموم أوروبا محكومة من خلال أحزاب أقصى اليمين، خصوصاً مع إمكانية عودة ترمب الذي يعوّل على تفكيك أوروبا، لكن العنصر المحدد ماذا قدَّم بايدن لأوروبا من أجل تحديد مسار العلاقات بين جانبي الأطلسي، ففي مسار التحديات الاقتصادية فيما يتعلق بالتنافسية، جعل بايدن التنافسية الأوروبية في مهب الريح، لكنه استطاع على الأقل منع اتجاه أوروبا التوجه نحو الشرق على عكس ترمب الذي يتجه نحو تفكيك أوروبا ما يجعلها تتجه نحو الشرق بالكامل.
أمام هذا المشهد عن تغيّرات المرحلة المقبلة صعود الدولة القومية في أوروبا، ما مدى إمكانية استقلالية القرار الأوروبي عن القرار الأمريكي، وخصوصاً سبق مجيء الدولة القومية فشل سياسات ديغول وشيراك في التحرر من الهيمنة الأمريكية، ولم يتمكّن ماكرون من فعل أي شيء نهائياً في قيادة أوروبا المستقلة، وكانت ألمانيا أول وأكبر دولة في أوروبا عارضت قرار أوروبا المستقلة الذي كان ينوي ماكرون تحقيقه واستبدل بمحاولات تشكيل جيش دفاع أوروبي، لكنه حتى الآن لم يتحقق شيء بسبب مجيء الدولة القومية التي لديها أولويات مختلفة.
فرصة السعودية التي تمتلك مقومات التنافسية في استثمار موقعها بين أوروبا وأمريكا البعيدة، وتستثمر الصراع بين أمريكا والصين في رفع أسعار الواردات الصينية، يذكّرنا بما حدث لليابان في القرن الماضي في تنمية الصين على حساب تحجيم القوة اليابانية، حيث تربط السعودية بين أوروبا المأزومة والهند التي تود أمريكا أن تحل محل الصين كمورد للصناعات الاستهلاكية لأوروبا وأمريكا، بإقامة أمريكا الممر الأخضر السعودي الخليجي بين أوروبا والهند لمرحلة اقتصادية جديدة قادمة وكلاهما متعطشان للطاقة التقليدية والنظيفة، وخصوصاً أن السعودية لا تمتلك فقط الموقع اللوجستي، بل تمتلك مقومات نسبية إضافية نتجت بعد تطبيق رؤية المملكة 2030 منها الطاقة بجميع أشكالها باعتبارها مصدراً للطاقة الشمسية إلى جانب قدرتها على إنتاج الطاقة الهيدروجينية الزرقاء والخضراء.
كما تود السعودية أن تكون مركزاً صناعياً عالمياً تنتقل إليه الصناعات الصينية واليابانية والكورية والأمريكية والأوروبية، فهي إلى جانب امتلاكها لأهم مقومات الصناعة الطاقة والتعدين فهي تود توطين صناعات المستقبل لتعزيز التنافسية لديها، المتمثلة في أشباه الموصلات التي تدخل في كافة صناعات المستقبل من أجل أن تكون أحد مراكز التصنيع العالمية من أجل أن تكسر الاحتكار الأميركي وتدخل سوق الرقائق الإلكترونية، خصوصاً بعد أزمة الإمدادات والمنافسة الحادة بين بكين وواشنطن، وسيصل إجمالي الإنفاق على هذه الصناعة بنهاية 2030 نحو مائة مليار دولار لتحقيق دخل وطني يقدَّر بنحو 35 مليار ريال.
إلى جانب اهتمامها بأن تسيطر على المعادن الحرجة وخصوصاً أن هناك ثورة في بطاريات السيارات الكهربائية مكونة من كبريتات الصوديوم بديلاً عن الليثيوم أربعة أضعاف تخزين بطارية الليثيوم وتستمر فترة أطول وشحن أسرع وأرخص وخصوصاً أن الليثيوم محدود الانتشار يتركز في 4 بلدان وتود السعودية أن تكون دولة مصنعة للسيارات الكهربائية، حيث من المتوقع أنه سيكون إنتاج السيارات الكهربائية الصغيرة 14 مليوناً في 2024 مرتفعة من 10 ملايين سيارة في 2023، وما زالت الصين تمثِّل 60 في المائة من إجمالي الإنتاج العالمي، ونتيجة المنافسة الشرسة اختفاء أكثر من 400 شركة للسيارات الكهربائية، وأقوى منافس شرس هي الصين، ما دعا واشنطن إلى رفع الجمارك من 25 في المائة إلى مائة بالمائة، لكن لم تتأثر الصين بسبب أن ما صدرته لأمريكا 12 ألف سيارة كهربائية فقط من أصل إجمالي صادرات 5 ملايين سيارة كهربائية في عام 2023 .
لذلك من أجل تعزيز المملكة تنافسيتها في صناعة السيارات تتجه نحو صناعة البطاريات والإطارات وقطع الغيار ما جعلها تتجه نحو إقامة 5 مشاريع كبرى لتصنيع قطع السيارات في سلاسل الإمداد لتعزيز القيمة المتكاملة في صناعة السيارات لتدخل سوق المنافسة في صناعة السيارات وفي بقية الصناعات الأخرى باعتبار أن صناعة السيارات المدخل إلى التصنيع.
** **
- أستاذ الجغرافيا السياسية والاقتصادية بجامعة أم القرى سابقاً