سهوب بغدادي
من أين أتت الموسيقى؟ تختلف وتتفق الآراء حول الإجابة، وقد يكون الاحتمال الأكبر أن التطور الطبيعي للموسيقى جاء من وحي الطبيعة، فالموسيقى بالنسبة للحيوان أمر طبيعي ومتأصل في التكوين، على عكس الإنسان، الذي يتحتم عليه اكتسابها كمهارة وإتقانها، ويقصد بالاكتساب هنا، الموسيقى الناتجة عبر التحكم بالحبال الصوتية وطبقات الصوت «الغناء» أو توليف الألحان من خلال العزف بالآلات الموسيقية، ولنا في قصيدة الشاعر عبدالملك الأصمعي خير مثال على دلالات تطور الموسيقى لدى الإنسان بدايةً من الحيوان وجنبات الطبيعة ثم إنتاج الأصوات والدندنة والغناء، وصولًا إلى اختراع الآلة الموسيقية والإيقاعات المصاحبة لها، فجاءت عبر تسعة وعشرين بيتًا، ورد في مطلعها صفير البلبل، وخرير الماء، ثم تماهي الإنسان مع محيطه وتعلمه الأصوات في بيت «فقال لا لا لا ثم لا لا لا» أيضًا ما تفعله المرأة من الولولة، ثم شطر الاختراع «والعود دن دندن لي والطبل طب طبل لي» في إطار متصل، يتبيّن أن اللعب بالكلمات والأساليب اللغوية والبلاغية تجعل من الشعر والموسيقى عملية تكاملية ومتماشية مع بعضها البعض، وبغض النظر عن كل ما قيل عن تطور الموسيقى من العدم فهي في نهاية المطاف نوع من أنواع الفن كالرسم والنحت والتمثيل وغيرها من الفنون التي تستلزم التعلم والاكتساب.
ويكمن السؤال الأهم عن أهمية هذا الفن والموسيقى، فما الفائدة العائدة من تأليف أغنية أو مقطوعة موسيقية أو ما أفعله الآن عبر كتابة مقالي هذا؟ وهل غناء الحيوانات وإيقاعات الحشرات وأصوات الطبيعة تندرج ضمن جُملة الغايات والأهداف؟ إن هنالك فرق بين الموسيقى بالنسبة للحيوانات والإنسان، فتلك الآتية من الحيوانات ذات هدف أولي، كالإنذار أو التنبيه أو التحذير أو النداء، أما الإنسان فأهدافه منها تتعدد وتتنوع ما بين ثانوية وأولية في حالات معينة، قد تتلخص الحاجة في الترفيه، أو كأن تكون للتنفيس والتعبير عن الذات ووصف حالة، لذا تؤلف الألحان السعيدة والحزينة، وقد تكون الموسيقى ردة فعل لحدث ما، وتماهٍ مع الحالة النفسية للإنسان، فهناك من يعجز عن التعبير بكلماته ويعكس مكنونات خلجاته عبر عبر أغنية أو لوحة، كما تعتبر الموسيقى بصمة تعكس الهوية الفردية والمجتمعية، لذا يمتلك كل شخص منا أغنيته ومطربه وآلته المفضلة، بل نوع معين من الموسيقى، فيما تتميز الشعوب وتختلف عن بعضها البعض عبر نمط الموسيقى والإيقاعات والآلات الموسيقية الخاصة بها، لذا فإن الموسيقى والفن على حد سواء أحد أدوات التواصل بين الشعوب وعكس الهوية، فلكل دولة نشيد وطني، يمزج بين الكلمات الخالدة والألحان العذبة لتأصيل مفهوم الانتماء والوحدة، وتتعدد الأمثلة لتداخل الفن في حياة الإنسان والمحصلة واحدة ألا وهي أن الفن حياة.
«ضجيج الفن أعلى من صوت الكلمات».