أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
تشير عبارة «الفكر العلمي وتأزم المنظور» التي جعلتها وسما لهذا المقال إلى مرحلة من مراحل الركود التي تصيب منظور العلم وبنياته بشقيه الإنساني والطبيعي وطرائقه المنهجية ونظرياته وتفسيراته نتيجة لعوامل عديدة منظوميه راجعة التغذية أولها تلك المدرجة ضمن المجموعة التي تعود إلى الأسباب الخارجة عن أروقة العلم ذي العلاقة بالمنظور المتأزم ذاته. وتتصدر عوامل هذه المجموعة بعض الأيدولوجيات والمذاهب والتيارات والفلسفات والأفكار الدجماتية غير الموضوعية النمطية المسبقة ذات التأثير السلبي غير النسقي على جهود المشتغلين بالفكر العلمي وتوجهاته المنظورية المختلفة، فتذبل أقلامهم، وتخفت شعلة عطاءاتهم العلمية وتتعطل بطبيعة الحال نتيجة لذلك مسارات الفكر العلمي ومناظيرها الفاعلة فتذوب توجهاتها وتنزوي في غياهب كواليس عوامل هذه المجموعة لتكون في نهاية المطاف حطبا في مواقدها. كما تشمل هذه المجموعة بعض أطر الفكر العلمي التي لا تتوافق بعض رؤى مناظيرها المتأزمة مع المألوف مما يشاهد من الوقائع أو يرصد من الحقائق أو ينجز من التجارب والدراسات المتعلقة بدلائل البرهنة أو النقض والتكذيب للأطر المؤدلجة أو الممذهبة المُكمِّمَة لذات الفكر العلمي وتوجهات منظوره، بل لفكر المنتمين إليه والمشتغلين به على حد سواء. أما ثاني تلك العوامل فتكمن في مجموعة الأسباب التي تولد داخل بعض أروقة منظور الفكر العلمي المتأزم ذاته كضعف التنظير وفقر التجريب ونقص التحليل والشرح والتفسير والمحاكاة. وبالإضافة إلى الأسباب الآنفة الذكر، فهناك أسباب أخرى تؤدي أيضا إلى تأزم المنظور داخل تلك الأروقة المعنية كمحدودية قواعد البيانات الحديثة وتقنياتها المختلفة وانعدام تطوير سبل استرجاعها ومواكبتها تحليليا للتقدم التقني وانفجار المعلومات وتطبيقات الذكاء الصناعي وغزو الفضاء ورصد أبعاده وتدوينها في ضوء حقل تنظيري معرفي موحد يربط الرصد والتدوين كموميا في العلوم الطبيعية تحديدا بعوائل الذرات ووحداتها الدقيقة الفيزيوكيميائية ما تحت الذرية. كما تقترن تلك الأسباب بالجهود العلمية الخارقة للعادة التي تقتضي أحيانا قيام العلماء على عجل من أمرهم حلا للأزمة باستبدال نماذج حقبة ما قبل تأزم المنظور بحقبة ما بعدها من النماذج مما قد يؤدي إلى عدم اتساق البنيات الفلسفية والمنطق الرياضي المحاكاتى السيناريوي لتلك النماذج مع طبيعة الوقائع المرئية قيد الممارسة المظورية. كما يعود السبب وراء ذلك التعجل من وجهة نظري إلى اعتقاد صانعي تلك النماذج، ربما دونما أدلة كافية، بأنها تتسق مع الوقائع المرئية وبأنها أيضا أنسب الصيغ الاجتهادية الممكنة للتعليل والأدق في التأويل والأصدق في التعميم والتنبؤ والمحاكاة وصناعة سيناريوهات الأحداث المستقبلية المتوقعة وحل عُقَدِ المنظور المتأزم قيد النظر. ولا شك أن مثل هذا الاعتقاد الآنف الذكر وما ينضاف إليه قد يؤدي كما أدى عبر حقب مختلفة في التاريخ إلى زيادة فرص احتمالات تأزُّم منظور الفكر العلمي بشقيه الإنساني والطبيعي وتعطيل أدائه جزئيا أو كليا واختلال وظائفه، أو ربما وصوله إلى طريق مسدود يعوق قدرته كنظرية معرفية سامقة على الوصف والتعليل والتحليل والتفسير والتعميم والتنبؤ والمحاكاة من ناحية ويحد تبعا لذلك من جودة نتائج تطبيقات المنظور وصرامتها، ويطيل أمد تأزمه ويؤخر مسار تقدمه ونهضته من ناحية أخرى. كما لا شك فيه قد يتمخض عن هذا الاعتقاد وما يقترن به من إشكالات معرفية كؤود إرهاصات حادة خطيرة تؤدي إلى تقليص فرص حشد الاحتمالات الكامنة الموجهة لأنساق البرهنة إبان الأزمة وزيادة احتمالات فرص تكذيب تلك الأنساق ونقضها. وفي حقيقة الأمر فإن اجتماع هذه الإرهاصات في حقل معرفي ما وفق ما تقدم أعلاه قد يسبب بطبيعة الحال في نهاية المطاف تأزم منظور الفكر العلمي في ذلك الحقل أولا وتخلف جحافل بنياته النظرية والتطبيقية ثانيا وتَشكُّل هوة سحيقة بين أنساقه المعرفية قيد النظر والبناء الفكري التفسيري للظواهر قيد البحث ومسارات هذا المنظور المتأزم المتنوعة الأهداف والمجالات والمآلات والتطبيقات ثالثا. ومهما طال أمد تأزم منظور الفكر العلمي لا بد أن يأتي حين من الدهر تتهيأ لذلك المنظور ظروف مغايرة لسابقتها تقوده إلى تجاوز أزمته وحلحلة قيوده فتحلق أنساقه النظرية والتطبيقية قيد البحث عبر أطياف منظورية براجماتية استقراء استدلالية ذات قيم نوعية علمية استشرافية مضافة رائدة. وتسبق حالات انعتاق المنظور العلمي من أزمته عادة ثورة جامحة تتمرد على بعض أنساق حقبة ما قبل التأزم، مولدة نتيجة لذلك رؤية نسقية جديدة مختلفة عن سابقتها يُطلق عليها كون في كتابه الشهير «بنية الثورة العلمية» مصطلح «المنظور Paradigm» مجال هذا المقال وغايته المنشودة. ويُعرِّف كون المنظور في ذلك الكتاب بأنه «إنجاز علمي مدرك عالميا يحقق في وقت ما أنموذجا لمعضلة تهم جما من أصحاب الاختصاص». كما يؤكد كون في كتابه هذا على أن العلماء يغيرون نظرتهم للعلوم ومفاهيمها من عهد إلى آخر في التاريخ نتيجة لوضع أنفسهم، من خلال انبثاق هذا المنظور، في إطار أنموذج نسقي جديد يختلف جذريا عن الإطار النسقي للأنموذج القديم الذي كان العلم يدور في فلكه قبل انبثاق الأنموذج العلمي أو المنظور الثوري الجديد. أما صاحب هذا المقال فيُعِدُّ المنظور حسب ما ورد في كتابه الموسوم «دراسات في نظرية المعرفة» إطاراً فلسفياً تنظيرياً إجرائياً يوظفه عقب حل تأزم النسق فرد أو مجموعة مشتركة فائقة الدربة من المختصين المنتمين لمدرسة فكرية أو مجال معرفي لملاحظة الظواهر الطبيعية أو الإنسانية وتفسيرها. فالمنظور، حسب التعريف الوارد في الكتاب المشار اليه آنفا، هو إذن بعبارة أخرى أنموذج فكري إجرائي شمولي معرفي مستحدث يبتدعه صاحب دربة مجمع عليه فيوظفه نقلاً عنه أهل فن عالٍ في التخصص لحل أزمة فكرية أو إجرائية يعجز الأنموذج السائد عن حلها أو تجاوزها. ونظراً لوضع العلماء أنفسهم في إطار الأنموذج الجديد كبديل عن الأنموذج القديم الذي عجز فعلا عن حل الأزمة أو المعضلة العلمية التي كان يدور العلم في فلكها قبل انبثاق الأنموذج أو المنظور الجديد، تتبدل نظرة العلماء للعلوم التي سادت بمختلف مناظيرها من قبل لتحل مكانها نظرة علمية أخرى مغايرة للأنساق المنظورية التي سادت في الساحة العلمية قبل الأزمة. وتأخذ النظرة المغايرة للأنموذج النسقي الجديد المشار إليه آنفا حسب ما أورده ماهر علي في كتابه «فلسفة العلوم» اتجاهين مختلفين الأول منهما رأسي حيث يتم بناء عليه مراجعة المفاهيم والتصورات العلمية وكل مسلمات نسق العلم قيد التغيير وأساسياته. أما الاتجاه الثاني فأفقي يفضي مساره عند ماهر علي إلى تغيرات مصاحبة تحدث في نماذج العلوم الأخرى المرتبطة بالعلم موضوع التغير.
من الجدير ذكره أن العلوم الإنسانية الأصولية والتطبيقية والعلوم الطبيعية البحتة والتجريبية على حد سواء قد تعرضت جميعها بلا استثناء عبر الزمن لمختلف أنماط المناظير المتأزمة التي تجمعها ببعضها قواسم بنيوية مشتركة. ولعله من المهم التنويه في هذا الصدد أن كارول بوبر قد ربط، من وجهة نظري، في كتابه الموسوم «منطق الكشف العلمي» مناظير الفكر العلمي ذات القواسم البنيوية المشتركة المتأزمة بالجوانب المنهجية النسقية الصرفة ومنها على وجه التحديد طرق التفكير الاستقراء -استدلالية التي توظف عادة، حسب رأيه، عبر مبدئي النقض والتكذيب، للبرهنة على مدى صدق الأنساق التنظيرية ذات العلاقة بالمسارات التطبيقية للفكر العلمي المعاصر وتوجهات مناظيره السائدة. وتعد المعايير الأسلوبية اللازمة لتحقيق التماثل في البيانات وتجانس حالات توزيعها وخلو نماذجها الخطية خاصة من فرص تسامت متغيراتها العددية المهيكلة رقميا من أهم المجالات التي قد يؤدي اختلال تطبيقها إلى تأزم المنظور الذي تحتضنه في مثل هذه الحالات قواسم بنيوية متأزمة مشتركة متنوعة المشارب والأهداف. وتتضمن هذ القواسم المتأزمة منظوريا أطرا مذهبية التوجه تسببها الصراعات المحتدمة بين المدارس الفكرية والعلمية المتنوعة المصادر والمآلات أو تفرزها عمليات التأرجح بين مبدئي البرهنة أو التكذيب لأنساق الفكر العلمي إبان مرحلة تأزم المنظور الذي قد يهيمن تأزمه بقوة على الساحة العلمية وبنية أروقتها ودهاليز أفكارها المختلفة التي تكون إبان ذلك التأزم معزولة فكريا وربما غير متصالحة مع ذات فكرها ومع ذوات فكر الآخرين في بعض الأحايين.