د. محمد بن إبراهيم الملحم
لماذا توجد عقول منفتحة وأخرى تنغلق! وحتى لو كانت المنغلقة تتسم بالذكاء والقوة العلمية كما وضحنا في أمثلة سابقة لعلماء عاصروا زملاء لهم مكتشفين أو مجددين علميا وربما فاقوا هؤلاء المجددين في إمكاناتهم من حيث المعرفة العلمية أو المهارات العقلية، ولكنهم لم يصلوا إلى نفس ما وصل له المجددون المبدعون، لكي نتمكن من الإجابة عن هذا السؤال المهم نحتاج أن ننظر إلى تعريف الإبداع، ونفرق بين الذكي والمبدع، فالذكي هو الشخص الذي يمتلك قدرات ذهنية تمكنه من التفكير بسرعة وبقوة (وهو حال أقران المكتشفين)؛ فالتفكير بسرعة هو ما يتضح من خلال قدرة هذا الشخص على التعامل مع المعرفة استقبالا واستظهاراً والتمكن من المقارنات المنطقية في وقت أقصر من غيره، وأما التفكير بقوة فيتبدى في تمكّن الشخص الذكي من تخيل المشكلات وتصوّرها في أفضل صورة تمكّنه من التعامل معها بنجاح.
وفي الجانب الآخر، فإن المبدع هو الشخص الذي يمتلك عدة مهارات ليست بالضرورة مما ينتمي إلى المظاهر التي وردت في تعريف الذكاء، وأبرز هذه المهارات الخاصة لتمييز المبدع عن الذكي هي الأصالة والمرونة والطلاقة والمثابرة والحساسية للمشكلات واللاروتينية، فأما المقصود بالأصالة فهي ميله إلى تقديم حلول جديدة تماما، وأما مرونة التفكير فهي قدرته على النظر إلى موضوع واحد من عدة زوايا مختلفة حتى لو كانت مناقضة لبعضها أحيانا، وهو ما يساعده على التنقل بين الآراء المختلفة وكذلك تقديرها واحترامها، وأما الطلاقة فهي قدرته على توليد أفكار كثيرة بسهولة فكلما انغلق عليه التفكير في طريق ما فتح لنفسه طريقا آخر بفضل هذه القدرة التوليدية الممثلة لمنبع أفكار لا ينتهي، وأما المثابرة فهي عدم شعوره بالملل من طول التفكير في موضوع واحد لفترة ممتدة من الزمن، وهذه الخاصية تحدث عنها أينشتاين فقال: «إنني لست أكثر ذكاء من كثيرين حولي لكني أتمكن من العيش مع فكرة واحدة لفترة من الزمن أطول بكثير منهم» وأما الحساسية للمشكلات فهي قدرته على استكشاف العيوب والخلل بسهولة، فهو غالبا شخص تحليلي يفطن للمثالب، لذلك يستطيع تقديم منتج إبداعي غير قابل للنقد غالبا، وأما عدم الروتينية فهؤلاء المبدعون لا يمكن أن يعملوا في بيئة عمل ذات نظام واحد وبطريقة آلية أو رسمية، وإنما خلقهم الله غير قادرين على هذا اللون من الانضباط؛ فهم منفتحون في طريقة ونظام عملهم كما هم منفتحون في تفكيرهم، ولذلك يفشلون غالبا في التأقلم مع الأنظمة الروتينية المملة الصارمة كالمدرسة والجامعة، وربما مؤسسات العمل أيضا، وهو ما يفسر أحيانا وجود حالة تمرد على النمطية عند بعض الأشخاص الذين قد لا يكونون متفوقين في مجالهم ولكنهم مبدعون فتراهم يقعون تارة بعد أخرى في مخالب النظام الصارم حتى يخرجهم من دائرة المجال الذي هم فيه فيتم طردهم.
هذه خصائص المبدع الذي يتمكن من التفكير بعقل منفتح ليصل الى الاستكشاف والتجديد العلمي ولا يعني أنها في معزل مطلق عن خاصية الذكاء؛ فالمبدعون الأذكياء هم عباقرة الكشف العلمي، والمبدعون الأقل ذكاء يساهمون في المستوى الثاني من توظيف المكتشفات العلمية، ولكن لا عزاء للأذكياء فقط والذين لا يملكون خصائص التفكير الإبداعي فيظل لهؤلاء مكانتهم العلمية أيضا ولكن ضمن إطار درجاتهم الوظيفية الجامعية أو في مجال تفوقهم في مجال العمل فقط.
من كل ذلك، نخلص إلى أن الشخصية العلمية الرسمية البحتة والتي شحذت ذكاءها وقدراتها العلمية في تكوين أساس علمي قوي يميز شخصيتها لها كاريزما هذا التمكن العلمي والفهم والاستيعاب لكنها قد تكون هي ذاتها حجر عثرة لنتاج المبدعين، وتنظر إليه نظر الشك والريبة فتسمه بالخطأ ليتوقف عندئذ نهر العطاء الإبداعي، وهو سيناريو مشاهد كثيرا عبر التاريخ وفي الواقع المعاش، سواء في العلوم البحتة أو الفنون أو الاقتصاد أو الانسانيات وغيرها، وسوف تستمر هذه المشاهدات بدون شك لأن هذه هي الطبيعة الإنسانية، ولكن ما يهمنا هنا هو توضيح أن هذه الشخصيات المعيقة للإبداع ليس لنا أن نرميها بالجهل فقد تكون شخصيات علمية قوية بيد أن قدراتها الشخصية والتي لم يكن بينها شيء من خصائص الإبداع، وكذلك نقص ثقافتها عن فئة المبدعين وقيمتهم هي ما يجعلها تفعل ذلك وتعيش بعقلية منغلقة على ما توصلت إليه فقط دون أن تجاوزه إلى ما وراءه، حينما أقول ذلك لا يساورني شك أن كل مثقف صادف يوما ما في حياته شخصية من هذا النوع؛ حيث يجدها انغلقت على رأي ما أو فكرة ما ولا يستطيع صاحبها أن يغادرها على الرغم من مناقشتها معه علميا، وقد تكون هذه الفكرة في الإدارة أو العلوم أو اللغة أو الدين أو المذهب أو التصور الاجتماعي أو أي مجال يخطر على بالك، ليس لأن هؤلاء ينقصهم عمق العلم ولا قوة الفهم ولكن لأنهم يفتقرون لسمات الإبداع كما قدمنا تعريفه آنفا، والمشكلة أنه في حالة تشكل مدرستين علميتين أو مجموعتين فكريتين في موضوع أو مجال ما فإن كلا من الطرفين يرمي الآخر بالجهل والتطرف (أتحدث عن عالمنا العربي غالبا)، وهذه التهمة ليست من فراغ بل هي استخدام لحالة جهل حقيقي فعلا في مسألة العقل المنغلق، وينطبق «الجهل» حرفيا على من لا يريد أن يناقش مسألة الاختلاف أصلا فالرافض للحوار يمارس نفس ما يمارسه أبو جهل في زمانه؛ حيث رفض الحوار أصلا ونفى الأمر من أسه اعتداء على الطرف الآخر، وأقول «اعتداء» هنا لأنها مفردة تمثل المعنى الفصيح لمفردة «جهل» فكما قال عمرو بن كلثوم في معلقته: «ألا لا يجهلن أحد علينا، فنجهل فوق جهل الجاهلينا» أي لا يعتدِي أحد علينا فنعتدي عليه أكثر، ولذلك سُمّي هؤلاء أهل جاهلية، وسمي أبا جهل بأبي جهل.
أخيرا أشير إلى أن المبدعين لا يستفيد منهم ويحافظ عليهم ويحسن توظيفهم إلا من يفهم خصائص الإبداع ويتفهم متطلباته ويتحملها في نفس الوقت، فتبني المبدع يحتاج جرأة خارقة وثقة عالية وإمكانيات متقدمة، ولذلك فإن الكيانات الرسمية لا تتمكن من تبنيهم وإنما المؤسسات الخاصة أو الجهات ذات السيادة العليا مع درجة عالية من الثقة. وسنواصل الحديث.