أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
ويشمل هذا التأزم أيضا ضمن أطياف قواسمه البنيوية المشتركة أطرا فكرية بينية ذات علاقة وثيقة بالقيم الحدية لمبادئ عدم اليقين وإحداثيات نقاطها الشاذة كمبدأ هايزنبرج لعدم اليقين على المستوى الذري مثلا أو على مستوى نظيره المتمثل في زمكانيات بلانك لحقبة ما قبل الفتق» الكوني للسماوات والأرض المعروف بـ»البج بانج» الذي تعرضت له قبل 13.8 مليار عام نقطة التفرد الكونية السماوية الأولى الدقيقة حجما والعالية كثافة والمتعاظمة احترارا. ولعله من المهم الإشارة هنا إلى أن القواسم البنيوية المشتركة للفكر العلمي المعاصر لا تخلو أيضا بأي حال من الأحوال من الأطر المرجعية التي قد تتأزم مناظيرها نتيجة لعدم تمكنها من حصر الاحتمالات وتضييق فرص نطاقات الصيغ المقبولة منها تنظيرا وتطبيقا. ولا شك أن هذا التأزم المرجعي إن حدث قد يحد أولا من منطقية العناصر المكونة لهيئات النماذج الرياضية ذات العلاقة ويعوق التحقق من الافتراضات المتعلقة بضرورة اتفاقها مع الوقائع المرئية واستيفائها لاشتراطات انعدام تسامت عناصرها ثانيا الأمر الذي يؤدى ربما في نهاية المطاف إلى زيادة احتمالات فرص تكذيب تلك النماذج أو دحضها استقرائيا وتأزم مناظيرها ونقضها. وقد تطول فترة تأزم منظور الفكر العلمي وتشتد وطأتها تبعا لطبيعة حدتها، وظروف نشأتها، وفقر الأطر المرجعية الأصولية الأساسية الرئيسة والمساندة الثانوية النظرية والتطبيقية المتاحة إبان فترة التأزم. كما قد تطول هذه الفترة نتيجة لضآلة الجهود العلمية البحثية التأصيلية المبذولة إبان الأزمة لتطوير الأطر المنظورية المرجعية تأصيلا وتطبيقيا من ناحية إضافة إلى ضعف التنظير والتطبيق وتدني مستويات أساليب توجيههما التوجيه الامثل لحل الأزمة المنظورية قيد البحث من ناحية أخرى. كما قد تطول تلك المدة وتترسخ حدة تأثيراتها نتيجة لمحدودية السخاء اللوجستي والمادي الداعمين لتلك الجهود، وعدم صرامة السبل الإجرائية المتبعة لرسم خريطة الطريق المؤدية لحلحلة تأزم المنظور وانعتاق فكره العلمي. ونتيجة لتنوع الأسباب وتعددها تتنوع بطبيعة الحال أنماط الأزمات المتعلقة بمنظور الفكر العلمي التي منها مثلا النمط الذي يُضَيُّق الخناق على تطبيقات النماذج التفسيرية ذات الصلة بمختلف العمليات العلمية الرئيسة كالوصف والشرح والتحليل والتعميم والتنبؤ والتقييم والمحاكاة. كما يضم التأزم، إضافة لما سبق ذكره آنفا، نمطا آخر أشوطأة من سابقه وهو النمط الذي تتناقض فيه الأنساق المفسرة للظواهر قيد البحث مع انساق التطبيق الإجرائي الأمثل للمنهجية العلمية وأدواتها وافتراضات العمل وآلياته. ونتيجة لذلك جميعا تتأزم بطبيعة الحال مقدمات المنهجية العلمية وتعميماتها المنظورية، كما تتأزم تبعا لذلك سبل فهم الواقع والتنبؤ بأحواله المستقبلية ومحاكاته البرمجية والاستشراف الأمثل لمستقبل مساراته النظرية التأصيلية والتطبيقية التجريبية المتأزمة على حد سواء.
من الجدير التنويه عند هذه المرحلة من المقال أن النظريات والمفاهيم العلمية والتصورات تلعب دورا هائلا في انبثاق المنظور وتفعيله وتأزمه في الآن نفسه، فتحدد النظريات والمفاهيم العلمية لنا حسب ما يذكر هانسون في كتابه «أنماط الكشف العلمي» ما هو مشاهد، بينما تحدد التصورات حسب ما أورده ثولمن في كتابه الموسوم «البصيرة والفهم» الكيفية التي نرى بها العالم من حولنا. وعليه تكمن أم الأزمات المنظورية غالبا في الصيغ غير النسقية المتعلقة بالتنظير والنمذجة المتأزمة غير الاستدلالية التي يتألف منها منظور الفكر المعرفي الإنساني الذي لم يستوف تحديدا حديات هانسون وثولمن. والواقع أن معظم الصيغ التي تسمى في العلوم الإنسانية بـ»النظريات» هي ليست نظريات بالمعنى العلمي المفاهيمي والتجريبي الرياضي لنظرية المعرفة، بل هي نتيجة لما تقدم ذكره في هذا الصدد صيغ أو مقولات تحمل تراكيبها البنيوية تأويلات متأزمة شاطحة متأرجحة أحادية الفاعلية. وتُعنى تلك المقولات والصيغ عادة بظاهرة اجتماعية أو اقتصادية أو عمرانية أو سكانية أو سياسية غير مؤتلفة مع واقع تأزم تلك التراكيب أو متسقة مع المرامي المختلفة التي تنشدها صيغها التنظيرية النسقية وتقتضيها الوقائع المرئية قيد النظر أو تتطلبها طرق الرصد والتحليل وأساليب التعميم المنهجية المعتبرة. ونتيجة لذلك تتفاوت الصيغ التنظيرية في العلوم الإنسانية من حقل معرفي إلى آخر في بنياتها التكوينية وهيئاتها المنطقية وحديات اتساقها مع الوقائع المقيسة المشاهدة ودرجة صمود تطبيقاتها أمام تحديات النقض والتكذيب الاستقرائية التوجه. فنظريات العلوم الإنسانية لا تتعدى كونها في الأغلب الأعم، كما أشرت آنفا، مجرد تصورات ورؤى شمولية كبرى صيغت في هيئات قابلة للدحض بأقل عدد ممكن من حالات الاستقراء التي تقتضيها الاشتراطات الدنيا لحديات بوبر ومعاييره الناقضة لتلك الصيغ. فلا يستغرب أن تعاني إذن بعض الصيغ التنظيرية في العلوم الإنسانية توترا بنيويا مزمنا وتأزما إجرائيا منهجيا مستمرا نتيجة لما تحمله تلك الصيغ في داخلها من بنيات قابلة للدحض بأقل عدد ممكن من فرص الاستقراء مقابل عجز حالاتٍ استقراء -استدلالية عديدة لإثبات صدقها. ولذا لا يستبعد أبدا وفق ما تقدم أن تصبح صيغة تنظيرية إنسانية ما مضادة لصيغة تنظيرية أخرى مناظرة لها، بل الأدهى والأمر من ذلك أن توظف تلكما الصيغتان رغما من تناقضهما البنيوي والناصي البارزين في شرح وتفسير ظاهرتين إنسانيتين متماثلتين في وقائعهما المرئية وأبستمولوجياتهما المعرفية ومتناقضتين تنظيريا في هيئاتهما المنطقيتين ومتباينتين في تأويلاتهما ومختلفتين في تفسيراتهما المحتملة. ولا شك أن حدوث هذا الأمر الآنف الذكر يؤكد مدى عمق تأزم المنظور في الحقول المعرفية الإنسانية وتَبَدُّد جدوى شروحاته المتوازية التي تمتد غالبا في هذا الحقل المعرفي من العلوم على خط نقض النظريات الإنسانية ودحضها. وهذا الأمر الذي يغلب حدوثه يجعل فرص دحض النظريات في العلوم الإنسانية أكبر من فرص تصديقها ويضخم تبعا لذلك مقدار تأزم طيفها الفكري التنظيري ويحجر واسعا طبيعة تطبيقاتها التنظيرية وتوجهات مناظيرها التعميمية الاستقراء - استدلالية التحليلية التنبؤية. ويندرج من وجهة نظري تحت هذا الواقع عدد من الصيغ المتحفية التي تسمى في العلوم الإنسانية تجاوزا بـ»النظريات» والتي منها على سبيل المثال لا الحصر نظرية السلطة والقوة، ونظرية التعصب العرقي، ونظرية التبادل، ونظرية بوتقة الذوبان، ونظرية التعصب العرقي، ونظرية فون ثنن، ونظرية فيبر، ونظرية فتر، ونظرية التأثير المتبادل. كما يندرج ضمن هذه الصيغ ما يسمى بنظرية الجذب أو التجاذب المكاني التي حاول أصحابها محاكاة أنموذج نيوتن للجاذبية ولكنهم ضلوا الطريق عندما استبدلوا عناصر الأنموذج النيوتوني التي تشمل حاصل ضرب الكتلتين قيد التجاذب مقسوما على مربع المسافة بين الكتلتين مضروبا في ثابت الجاذبية، بأحجام السكان ومقدار المسافة المطلقة بين مركزين حضاريين، الأمر الذي أدى إلى إفراغ الأنموذج النيوتوني المحاكاتى من محتواه الرياضي ومناقضته لأبسط بديهيات البنية المنطقية للأنموذج النيوتوني الأصلي وحدوده التجريبية العددية. ويمكن أن تستثنى من التعميمات الآنفة الذكر نظرية التوطن الصناعي ونظرية المكان المركزي وبعض نظريات النقل والمواصلات ذات النماذج الرياضية الشبكية التي تطبق بكفاءة في الجغرافيا البشرية وبعض العلوم الإنسانية الأخرى. كما يمكن أن تستثنى من تلك التعميمات بعض نظريات الجغرافيا الطبيعية ذات الصيغ التقنينية الفيزيوكيميائية التي توظف في مختلف المجالات كالمناخ والجيومورفولوجيا والتربة والأحياء إضافة إلى بعض نظريات الاقتصاد الايكونوميتري كقوانين العرض والطلب وقوانين السكن والسكان والتخطيط العمراني. ويندرج ضمن هذا الاستثناء أيضا بعض نظريات الأنثروولوجيا الأحيائية، والصيغ التنظيرية اللسانية الفيزيوكيميائية، ونظريات القوى الجيوستراتيجية البرية والبحرية والجوية التي توظف في الجغرافيا السياسية وبعض العلوم الأخرى المهتمة بالسياسة والقانون الدولي وأوزان الدول.
إن قصة الفكر العلمي وتأزم المنظور في العلوم الطبيعية قصة فريدة رائدة خالدة تختلف مساقاتها التنظيرية تحديدا عن مساقات نظيراتها في الفكر العلمي الإنساني المنوه عنه في سياق هذا المقال آنفا. فقد شهدت الفيزياء مثلا كأنموذج حيوي للعلوم الطبيعية في إطارها الشامل خلال القرون الأربعة ونيف الماضية إنجازات ثورية هائلة تحققت بسببها تحولات فكرية وعلمية منظورية مدهشة تجلت في عدد من المكتشفات التي تبلورت بعد أزمات حادة عايشها منظور هذا العلم عبر عدد من الأطوار التي اقترن كل طور منها بمنظوره الخاص به. فاكتشفت عبر تلك الأطوار على سبيل المثال لا الحصر الأشعة السينية والنشاط الإشعاعي والنيوترون وتركيب البلورات والانشطار النووي والميزونات. كما اقترنت بعض الأطوار المتأخرة من علم الفيزياء بإنجازات تمثلت في الأعمال التجريبية الدقيقة التي أجري بعضها ضمن فواصل زمنية ميكروية أو أدق في المعجلات النووية والمصادمات الهيدرونية المختلفة الأحجام والأهداف والمجالات.