د. عبدالحق عزوزي
هناك خطر التنظيمات الإرهابية في إفريقيا جنوب الصحراء؛ وهؤلاء وأمثالهم جميعاً هم أصحاب الغلو والتطرف، ومهما تغيرت أسماء تنظيماتهم من قاعدة أو بوكو حرام أو داعش أو سلفية جهادية فهم أصحاب الغلو في الدين المارقون والخارجون عن الملة، وحاشا أن يكون لفكرهم صلة بالإسلام الحنيف الوسطي المعتدل.
ويجب أن تتوحد الجهود بين الدول المسلمة والمعنية على أعلى مستوى.. ونظراً لعولمة الحدود وصعوبة الجغرافيا قد تتحول الوحدات إلى عناصر إرهابية عابرة للقارات، وهنا تكمن الخطورة، ويجب خلق مجال العمل المشترك الاستباقي لتكوين خطة طريق استباقية في المجال الأمني، دون أن ننسى خطة طريق استباقية في مجال الأمن الروحي للمسلمين بتصور مناهج تربوية عصرية تدرس في جميع الوطن العربي للناشئة منذ نعومة أظفارهم. وهذا هو المهم.. فنوعية منظومة التعليم في أوطاننا لها دور كبير في تفريخ هذه الشرذمة من الناس الخارجة عن الجماعة وإلا كان الأبناء المسلمون محصنين من الفيروس الملوث للعقول والقلوب ولكانوا محصنين من ظاهرة الغلو في الدين؛ والغلو يكون خطيراً جداً حين يلبس لباساً دينياً.
فالغلاة ينحون نحو التبسيطية المخلة، فالأمر إما حق أو باطل، والموقف إما هدى أو ضلال، والألوان إما أبيض أو أسود، والحاكم إما ملاك أو شيطان، والشخص إما مسلم أو كافر، فلا ركيب ولا تنسيب ولا تطييف ولا تعقيد ولا تشابك، وإذن فلا اختلاف ولا اجتهاد ولا عقل، ولا خطأ ولا شك ولا حرية ولا تطوير ولا تحسين، وإنما الأشياء بسيطة حاسمة جاهزة حازمة؛ فتكون النتيجة سلبية وأحكامها هدامة واستنتاجاتها مصيبة آزفة ومواقفها داهية عظمى ليس لها من دون الله كاشفة، سرعان ما تتحول إلى إرهاب وعنف دموي.
فلا جرم أن الاستثمار الفعال لإنقاذ الأجيال المقبلة يبدأ من نوعية منظومة التعليم ونوعية المدرسة في أوطاننا العربية؛ وحري بجميع المعنيين البدء فوراً بهذا العمل تأصيلاً وتعميماً وهي مسؤولية تاريخية جماعية.. ففشل المنظومة التربوية التعليمية في الوطن العربي والإسلامي هي التي ولدت بوكو حرام وكل التنظيمات الجهادية الإرهابية.
كما أن التنظيمات «الجهادية» أصبحت أكثر ضبابية وأكثر توالداً، لأن الأوامر لم تعد تصدر إليها من أعالي جبال أفغانستان، وإنما تقوم بعمليات انطلاقاً من مبدأ ما أسميه باللامركزية التنظيمية؛ ويعرف علماء القانون الإداري أنه في الدولة الموحدة يكون التقييم الإداري المبني على اللامركزية أكثر فاعلية وقوة من المركزية في نتائج أخذ القرارات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والإدارية والتنموية بل وحتى السياسية منها. وعندما تدخلت فرنسا في مالي منذ سنوات، اكتشف الإنسان العربي التواجد المهول لتلك التنظيمات ذات الأسماء المتنوعة، كما اكتشف وجودها العفن في مجتمعات الدول، ابتداءً من مالي والساحل والصحراء، وصولًا إلى أفغانستان وباكستان، ومروراً بإيران وسوريا وليبيا والقائمة طويلة. فهذا الفصيل من التنظيم الجماعي موجود وخطير ومزدهر يأتي على العقول الضالة، أو الجاهلة ليخرجها من الفطرة الإسلامية السمحة، ومن العقلانية الدينية إلى الهمجية المطلقة العمياء.
فالعلاقة التي تربط مريدي التنظيمات الإرهابية برؤسائهم مطلقة للأسف الشديد، وهم أناس ملوثة عقولهم يحملون علماً ضيقاً أو جهلًا مطلقاً، ويكنون خضوعاً مطلقاً لأصحاب التنظيمات «الجهادية»، وينافحون بالسلاح لفرض مبادئ ضالة ومضلة تأتي على أبرياء من بني البشر، وتقوض مبادئ التسامح والتعايش بين بني آدم. والحل إذن يكمن في إعادة النظر في المناهج التربوية والتعليمية في الوطن العربي والعالم الإسلامي وتجذير دروس الوسطية والاعتدال في المقررات.. فالوسطية في ديننا الحنيف هي من المسلمات وهي منهاج وميزان للحياة السليمة، وبها تجذر قواعد الانتماء الحضاري وأبجديات التنمية، وهذا هو الإسلام الحقيقي الوسطي المعتدل.
ومثل المتناسي لضرورة الوسطية وقبول الآخر كمثل أولئك الذين وصفهم ابن خلدون في مقدمته عندما تحدث عن أناس يتلذذون بتغيير حقائق التاريخ أو الخوض فيه دون الإلمام بقواعده حتى زلت أقدام الكثيرين وعلقت بأفكارهم مغالطات، ونقلها عنهم الكافة من ضعفة النظر والغفلة عن القياس وتلقوها هم أيضا كذلك من غير بحث واندرجت في محفوظاتهم.. فالكثير ممن يشعلون الفتن الطائفية في بعض الدول ينقلون إلى عوام الناس أموراً واهية لا يرجعون حقائقها إلى الأصول المبنية على الرحمة وقبول الآخر، وهنا الطامة الكبرى.