د. تنيضب الفايدي
تشتهر مكة المكرمة بأودية وشعاب وهي كثيرة، ليس من السهل معرفتها كلها، ولذا قيل: «أهل مكة أدرى بشعابها»، والشعاب هي مجارٍ مائية صغيرة تمثل فروعاً للأودية وتكون في الأغلب ضيقة وصغيرة وقصيرة إذا ما قورنت بالأودية.
وسأقتصر في هذا البحث على الأودية داخل مكة المشرفة وأطرافها، ولا أتناول أودية منطقة مكة المكرمة، حيث إنها بالعشرات إن لم تكن بالمئات، من تلك الأودية الشهيرة:
وادي إبراهيم
وادي إبراهيم هو الوادي الرئيس في منطقة الحرم المغذية لبئر زمزم، وهو المراد في قوله تعالى: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}، ويطلق عليه أحياناً وادي بكة ويعدّ من أكبر الأودية حيث يشغل معظم أراضيها وأحيائها حيث تبلغ مساحة حوضه 37.5 كم2، يمتد من الشرائع شرقاً إلى الكعكية جنوباً مروراً بالمسجد الحرام، يبدأ من شمال مكة حتى يصل إلى منطقة جبل حراء ثم يعتدل غرباً عند منطقة العدل حيث يتفرع منه وادي فخ، ويستمر هو حتى يصطدم بجبل المعابدة، ثم يتجه جنوباً حتى يخترق الحرم، ويتجه إلى المسفلة ويستمر إلى جنوب مكة المكرمة. والجدير بالذكر أن وادي إبراهيم كثير الشعاب والروافد، من أهمها: شعب الغسالة، الملاوى، الخانسة، ريع أذاخر، شعب عامر، شعب علي، أجياد السد وأجياد المصافي. ووادي طوى: وهو من أهم الروافد وأكبرها. وتنصرف إلى وادي إبراهيم مياه كل من ريع الحجون وريع الرسام وريع الحفائر وريع الكحل وريع أبو لهب.
ونظراً لكثرة شعاب وروافد وادي إبراهيم فإنه حالما تهطل الأمطار تسيل وتندفع مياهها بسرعة نحو الوادي وقد ينجم منها سيول عنيفة وفيضانات تشكل خطورة على المسجد الحرام الذي يقع في قلب هذا الوادي، ومن أجل تفادي خطورة هذه الفيضانات تم تحويل الجزء الأكبر من مياه أعلى الوادي إلى الوادي الزاهر. ومن الملاحظ أن الوادي يكون متسعاً في بدايته في المنبع عند منطقة الشرائع ثم يضيق جداً بين جبل النور وجبل ثبير ثم يتسع في الأبطح والعدل والروضة والمعايدة ثم يضيق مرة أخرى من الجميزة إلى ما بعد المسجد الحرام والمسفلة ثم يتسع في الكعكية ثم يضيق بعد مخطط السبهاني ويتسع في النهاية في سهل الشميسي وعرنه.
وادي الزاهر
وهو الودي الرئيس الثاني بمكة المكرمة، يسمى اليوم بعدة أسماء: أعلاه خريق العشر، ووسطه الزاهر، والشهداء، وأسفله أم الجود، وكان ما بين الزاهر والحديبية يسمى بلْدحاً. وكان يسمى أيضاً فخ وهو الوادي الذي عناه بلال بن رباح بقوله:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بفخ وحولي اذخر وجليل
يمتد هذا الوادي من شمال شرق المسجد الحرام باتجاه الغرب، حيث يأخذ مياهه من المرتفعات الشرقية الموجودة هنالك (جبل الستار)، وهو بذلك يحاذي وادي إبراهيم في منطقة المنبع.
لوادي الزاهر العديد من الروافد، من أهمها: وادي العشر، وادي جليل، وادي أفاعية، ريع أذاخر، وادي المقارح، وادي أم الرحا، وادي الرصيفة، وادي المرير.
وادي العزيزية
وادي العزيزية هو أحد الأودية التي تقع ضمن منطقة الحرم الشريف، يأخذ مياهه من جبل الخندمة حيث تشكل سلسلة جبال الخندمة خط تقسيم المياه بين وادي العزيزية ووادي إبراهيم، ويواصل جريانه باتجاه العوالي حتى ينتهي في الحسينية.
وادي منى
وادي منى هو أحد الأودية الواقعة داخل حدود الحرم الشريف، وهو من الأودية المهمة للمسلمين وتكمن أهميته في كونه أحد مشاعر الحج، فهو المكان الذي يقضي فيه الحجيج ثلاثة إلى خمسة أيام متتالية.
يقع شرق المسجد الحرام ويبعد عنه بحوالي 7 كم، ويمتد الوادي من الجمرات غرباً وينتهي بوادي محسر شرقاً. تبلغ مساحته الكلية حوالي 8 كم.
وادي محسر
يقع وادي محسر بين منى ومزدلفة بحيث يشكل حداً فاصلاً بينهما، ويأخذ مياهه من الطرف الشرقي لجبل ثبير وثقبه ومن منطقة المعيصم ويتجه نحو الجنوب ليستقطب جميع مياه مكة المكرمة الجنوبية الشرقية المتمثلة في مياه منى ومزدلفة والعوالي والعزيزية ويواصل جريانه حتى يصب في عرنة بعد أن يمر بجبال المريخيات في الحسينية. ويسمى محسر وادي النار ولذلك يستحب للحجاج الإسراع فيه وعدم المكوث به، وكذلك يسمى المهلل لأن الحجيج إذا وصلوا إليه أسرعوا وهللوا.
وادي نعمان
وادي نعمان... من أكبر أودية مكة المكرمة، ويقترب منها مع امتدادها حيث تقع جامعة أم القرى حالياً بالقرب منه إن لم تكن أخذت جزءاً من وادي نعمان، يقول الحموي في معجم البلدان (7-339): «نَعْمان بالفتح ثم السكون وآخره نون، هو فعلان من نعمة العيش وهو عضارته وحسنه، وهو نعمان الأراك: وهو وادٍ بنْيتُه ويصب إلى ودان، بلد غزاه صلى الله عليه وسلم، وهو بين مكة والطائف، وارتبط تحديد وادي نعمان بما يلي:
- يقع وادي نعمان جنوب عرفة، وتتصل أرضها بجزء منه، ويذكر في الشعر مرتبطاً بها.
- لكثرة ما يقال في وادي نعمان يتعدد ذكر منى مع أنه لا يتصل بمنى ولكن ذكر من باب القرب. حيث قال الشاعر أبو حيه النمري متغزلاً:
تَضَوَّع مِسْكاً بَطنُ نَعْمانَ إذ مَشَت
به زَيْنَبٌ في نِسوةٍ عَطِراتِ
تهادَيْنَ ما بينَ الـمُحَصَّب مِن منىً
وأقبلنَ لا شُعثاً ولا غَبراتِ
مَرَرْنَ بِفخٍّ ثم رُحْنَ عشيةً
يُلَبّينَ للرحمن مُعْتَمِراتِ
يُخبئْنَ أطراف البنان من التقى
ويَقْتُلنَ بالألحاظ مُقتدِراتِ
رُبِطَ موقع وادي نعمان بجبل كبكب ويقع هذا الجبل بين وادي نعمان في الجنوب الشرقي وعرنة في الشمال الغربي، كما اشتهر وادي نعمان بشجر الأراك ولا زال هذا الشجر يغطي جزءاً منه، قال عمر بن أبي ربيعة (وهو ابن مكة):
تخيرتُ من نعمان عودَ أراكةٍ
لهندٍ ولكن من يبلّغه هندا
وما أكثر الشعراء الذين أثار وجدانهم نعمان فهذا الشاعر أبو الفوارس يتذكر منازله في نعمان ويتذكر شجر الأراك حيث يسمّى وادي نعمان بوادي الأراك:
نزلنا بنَعمان الأراكِ وللنّدى
سقيطٌ به ابتلَّتْ علينا المطارفُ
فبتُّ أعاني الوجدَ والركبُ نوَّمٌ
وقد أخذتْ مني السُّرى والتنائفُ
وأذكر خوداً إن دعاني إلى النوى
هواها، أجابته الدموعُ الذّوارفُ
لها في مغاني ذلك الشِعْبِ منـزلٌ
لئن أنكرتْهُ العينُ فالقلبُ عارفُ
وقفتُ به والدمْعُ أكثره دمٌ
كأني من جفني بنَعمان راعِفُ
ويذكر جبل نعمان، وجبلا نعمان، وجبال نعمان، هذه الجبال ترد في الشعر مع وجود اختلاف في تحديده، ولكن وادي نعمان لا خلاف في تحديد موقعه وفق ما ذكرت سابقاً، وإذا ذكر وادي نعمان فكأنما يُذْكَرُ شعر الحبّ حيث تغنّى به الشعراء كثيراً في الجاهلية والإسلام، وقد يكون وادي نعمان بعيداً عن موطن محبوبة الشاعر ومع ذلك يستشهد به، قال قيس بن الملوح في قصيدته المشهورة:
تذكرتُ ليلى والسنينَ الخواليا
وأيام لا نخشى على اللهو ناهيا
ألا أيها الركب اليمانون عرِّجوا
علينا فقد أضحى هوانا يمانيا
نُسائِلكُمْ هل سال نَعمانُ بعدنا
وحبَّ إلينا بطن نَعْمان واديا
عهدنا به صيداً كثيراً ومشربا
به ننقع القلب الذي كان صاديا
وقال جرير:
لنا فارطَ حوضِ الرسولِ وحوضِنا
بنعمان والأشهاد ليسوا بغُيّب
وقال الفرزدق:
دعونَ بقُضبان الأراك التي جَنَى
لها الركبُ من نَعْمان أيام عَرّفوا
يشتهر وادي نعمان بجوّ نظيف ولطيف، حيث نقاء الهواء والنسيم العليل وخاصة في فصل الربيع وتكثر فيه النباتات منها إضافة الأراك أشجار السمر وهو الأكثر والسدر والسلم.. الخ قال الشاعر:
يا ليلتي بذات الشيح والضال
ومنبت البان من نعمان عودا لي
ويا مرابع أطلالي بذي سلم
لهفي على ما مضى من عصرك الخالي
وقد أكثر شعراء العرب ذكر نعمان، ومن ذلك أيضاً قول أبي قيس بن الأسلت الخزرجي:
فلما أجازوا بطن نعمان ردهم
جنوب مليك بين سافٍ وحاصبِ
فولّوا سراعاً نادمينَ ولم يؤبْ
إلى أهله بالجيش غير عصائبِ
وكثرة وروده في أشعار العرب يدلّ على جماله، حتى أحبه هؤلاء الشعراء فترجموا حبهم له شعراً.
كما تمر بهذا الوادي الشهير عين زبيدة المشهورة حتى تصل مكة المكرمة، ولا تزال خرزات (فتحات) العين موجودة، وقد اقترب وادي النعمان من مكة المكرمة وسيصبح حياً من أحيائها.
وادي الحرمان:
يحاذي هذا الوادي عرفة من الناحية الشرقية، ويوجد فيه مجموعة من الهضاب التي نفذت في صخورها مجموعة من النقوش الكتابية الإسلامية التي يعود تاريخها إلى الفترة الإسلامية المبكرة، معظمها غير مؤرخ.
وادي عرنة:
وادٍ فحل من أودية مكة ذو روافد متعددة، يأخذ أعلى مساقط مياهه من (الثنية)، وهي فزر يقع بين جبال الهدأة وجبال طاد، والتنضب، وسيل ماؤها الشرقي إلى روافد نخلة اليمانية، والغربي إلى صدر عرنة. ويسمى صدر عرنة وادي الصدر، وبه قرية الشرائع (ماء حنين قديماً). ووادي عرنة ووادي نعمان عند عين العابدية إذا اجتمعا أطلق عليه وادي نعمان الأراك، أما الآن فقد أطلق عليه وادي عرنة.
يقول عمر بن أبي ربيعة:
تخيّرت من نعمان عود أراكةٍ
لهندٍ ولكن من يبلّغه هندا
وقال الأبيوردي:
نزلنا بنعمان الأراك وللنّدى
سِقِيط به ابتلت علينا المطارفُ
فبِتُّ أعاني الوجد، والركبُ نُوَّمٌ
وقد أخذتْ منّي السُّرى والتّنائفُ
وقال أحدهم:
أبكاكَ دون الشَّعْب من عرفات
بمدفع آياتٍ إلى عُرناتِ
وقيل في أبي الكِنّات المكي المغني:
أحسن الناس فأعلموه غناءً
رجلٌ من بني أبي الكنَّات
حين غنّى لنا ما شاء
غناء يهيج لي اللذات
عفت الدار فالهضاب اللواتي
بين (توز) فملتقى عُرنَات
وروافده وادي حنين، وادي يدعان، وادي ذي المجاز، وادي السار أو وادي حواس، ووادي الخيام، ووادي الضيقة، وادي السقيا وغيرها.
وادي المغمس:
يطلق عليه حالياً اسم الوادي الأخضر، يحاذي عرفة من شمالها الشرقي، أصبحت لهذا الوادي شهرة تاريخية بعد حادثة الفيل. قال البكري: هو الموضع الذي ربض فيه الفيل حين جاء أبرهة، فجعلوا ينخسونه بالحراب فلا ينبعث، حتى بعث الله عليهم طيراً أبابيل فأهلكتهم.
وقد ورد المغمس في الشعر العربي كثيراً، ولعل أول أبيات وردت في المغمس هذه الأبيات لرجل من أياد هو أبو المنذر الأيادي:
تحن إلى أرض المُغمّس ناقتي
ومن دونها ظهر الجَرِيب وراكسُ
بها قطعتْ عنّا الوذيم نساؤنا
وعرّقت الأبناء فينا الخوارسُ
إذا شئتُ غنّاني الحمام بأيكةٍ
وليس سواء صوتها والعرانسُ
تجوب بنا الموماة كل شملّةٍ
إذا أعرضت منها القفار البسابسُ
وقال أمية بن أبي الصلت الثقفي:
إنّ آياتٍ ربنا ظاهراتٍ
ما يمارس فيهن إلا الكفورُ
حبس الفيلَ بالمغمَّس حتى
ظل يحبو كأنه معقورُ
كلّ دينٍ يوم القيامةِ عند الله
إلا دِينُ الحنيفة بورُ
خلّفُوه ثم ابذعرُّوا جميعاً
كلُّهُم عظمُ ساقِه مكسورُ
ويروى هذا لعمرو بن سنة الخزاعي كذا:
ضربوا الفيلَ بالمغمَّس حتى
ظل يحبو كأنّه محمومُ
وقال نُفيل بن حبيب الخثعمي:
ألا حُيّيتِ عنّا يا رُدَينا
نعمناكم مع الأصباح عينا
رُدَينةُ لو رأيتِ ولن تريْه
لدَى جنب المغمَّس ما رأينا
إذاً لعذرتني ورضيتِ أمري
ولن تأسي على ما فات بينا
حمدتُ الله أن أبصرتُ طيراً
وخفتُ حجارة تلقى علينا
وكل القوم يسأل عن نُفيل
كأنّ عليَّ للحبشانِ دَينا
وقال عمر بن أبي ربيعة:
ألم تسأل الأطلالَ والمتربعا
ببطنِ حُليّات دوارس بلقعا
إلى الشري من وادي المغمّس بدِّلتْ
معالمه وبلا ونكباء زعرعا
وقال المؤرق:
غدرتم غدرة فضحتْ إباكم
ونتَّفت المغمّس والظرابا
وقال عمر أيضاً:
غشيتُ بأذنابِ المغمّس منزلاً
به للتي نهوى مصيفٌ ومربعْ
مغاني أطلالٍ، ونؤياً، ودمنةً
أضرّ بها وبل ونكباء زعزع
ببطن حليات كأنّ رسومها
كتاب زبور في عسيبٍ مرجع
وقال المغيرة بن عبد الله المخزومي:
أنتَ حبست الفيلَ بالمغمَّسِ
حبسته كأنّه مكردسِ
من بعد ما هم بشر مجلسِ
بمجلسٍ تزهقُ فيه الأنفس
هذه بعض أودية مكة الشهيرة، وقد ارتبطت بعضها بالتاريخ الإسلامي، خصوصاً السيرة النبوية حيث حدثت بعض الوقائع فيها.
بعض المراجع: معجم البلدان للحموي، نفحات أدبية عن درر ومواقع مكية للدكتور تنيضب الفايدي، أودية مكة للبلادي، الحياة الاجتماعية بمكة المكرمة... لـ: إيمان إبراهيم كيفي، البيئة الطبيعية لمكة المكرمة.